+ A
A -
طفت على سطح العلاقات بين النظام السوري وروسيا، مؤخرًا، توترات غير مسبوقة، ما لبثت أن تراجعت حدتها. كشفت هذه الخلافات عن الصعوبة المتزايدة التي يواجهها الروس في ضبط سياسات حليفهم في دمشق، وأظهرت تأثر العلاقة بين الرئيسين الروسي والسوري، وعمق الاستياء الإيراني من التحركات الروسية في سورية. مع ذلك، يدفع اصطفاف القوى الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط، والأوضاع الخاصة للنظام السوري، الروسَ إلى المحافظة على تحالفهم مع بشار الأسد، بينما يواصلون اغتنام الفرص لتوسيع نفوذهم في سوريا والتمدد على حساب الإيرانيين والأميركيين.
كانت الخلافات بين الجانبين تظهر دوريًا، لكن هذه المرة اختلفت عن سابقاتها؛ إذ انحدرت علاقات النظام بالروس إلى أدنى مستوى عرفته منذ بداية الأزمة السورية عام 2011. فقد هاجم كتّاب روس بشدة النظام السوري ورئيسه، وردّ نظراؤهم السوريون بالمثل مهاجمين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًا. وطرح مركز أبحاث روسي مرموق، تموّله وزارة الخارجية الروسية، عدة سيناريوهات محتملة لتطور الأوضاع في سورية، لم يستبعد منها إمكانية التوصل إلى اتفاق رباعي أميركي - روسي - إيراني - تركي على تغيير الأسد ووقف إطلاق النار، مقابل تشكيل حكومة انتقالية تشمل المعارضة والنظام وقوات سوريا الديمقراطية «قسد».
وبعد ذلك، نشرت وكالة «الأنباء الفدرالية» الروسية المملوكة لقطب الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين، والمعروف باسم «طباخ الكرملين»، عدة تقارير انتقدت الأسد ونعتته بـ «الضعيف والفاسد»، محذرةً من «عدم توافر الظروف للشراكة بين روسيا وسورية نظرًا إلى ارتفاع مستوى الفساد في المستويات السياسية (السورية) العليا». كما نشرت «الأنباء الفدرالية» نتائج استطلاع أجراه «صندوق حماية القيم الوطنية»، الحكومي، على عينة من المواطنين السوريين دل على «تدهور شعبية الأسد إلى مستويات غير مسبوقة»، حيث رفض 54 في المائة منهم، رفضًا حاسمًا، منح الأسد ثقتهم مجددًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2021؛ ما شكل ضربة للنظام، خصوصًا أنها جاءت من حليفه الروسي لتؤكد معارضة الرأي العام السوري للأسد، بما في ذلك داخل المناطق التي يسيطر عليها. وتكاد نتائج هذا الاستطلاع أن تكون متطابقة مع ما ذكره الدبلوماسي الروسي، رامي الشاعر، في إحدى مقالاته في صحيفة زافتر الروسية، والتي أعادت نشرها قناة روسيا اليوم.
وقد وصل الأمر بالصحافة الروسية إلى حد تسريب خبر إهداء رئيس النظام السوري زوجته لوحة فنية لرسام بريطاني معاصر تحمل اسم «سبلاش»، قيمتها 23.1 مليون جنيه إسترليني (حوالي 30 مليون دولار)، كي تزين بها أحد جدران قصورها. ورغم أن المعلومة لم تكن صحيحة، فإن تسريبها للإعلام الغربي كان لافتًا.
تسببت هذه التقارير في غضبٍ شديد في دمشق، ودفعت محللين وشخصيات قريبة من النظام إلى التلويح باحتمال إعلان الوجود الروسي في سوريا «احتلالًا»، ومواجهته بـ «مقاومة مسلحة».
عودة الدفء
بعد أسابيع من الخلاف، بدأت عملية احتوائه انطلاقًا من إيران؛ إذ نفى السفير الروسي في طهران، لوان جاكاريان، «شائعة» اتفاق روسيا وإيران على دفع الأسد إلى الاستقالة، بعد ساعات من نفي مسؤول رفيع في مجلس الشورى الإيراني وجود مثل هذا الاتفاق. أتى النفي الروسي الإيراني المتزامن، عقب يومٍ من إبلاغ كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية الخاصة، علي أصغر حاجي، سفير النظام السوري في طهران، عدنان محمود، بمواصلة بلاده دعم النظام ضد «الإرهاب»، واستمرار «التعاون الاستراتيجي بين إيران وسورية وروسيا» في هذا المجال.
وبالتزامن مع زيارةٍ غير معلنة لمبعوث روسي عسكري إلى دمشق، جال على المسؤولين السوريين لطمأنتهم أن «لا تغيير في موقف الرئيس فلاديمير بوتين من الأسد»، خرج سفير روسيا لدى النظام السوري، ألكسندر يفيموف، عن صمتٍ دام أكثر من شهر على بدء الحملة الإعلامية الروسية على الأسد، ليؤكد أن «الإشاعات والتلميحات» حول وجود خلافات بين روسيا والنظام «ليس لها أي أساس». بعد أيام من تصريحه، تم تعيين يفيموف مبعوثًا للرئيس الروسي إلى سورية، وأعقب ذلك تفويض بوتين وزارتي الدفاع والخارجية إجراء محادثات مع الجانب السوري، حول «نقل ملكية المزيد من العقارات والمياه الإقليمية السورية إلى القوات العسكرية الروسية، وذلك في إطار الاتفاق بين البلدين على نشر المجموعة الجوفضائية الروسية في سورية» الموقّع عام 2015. ووسط جهود روسية، توجت بإعادة افتتاح الجزء الواصل بين مدينتي حلب والقامشلي من الطريق الدولي «M4»، سلم الروس النظام «الدفعة التالية من الطائرات الحربية المتطورة والمحدثة من طراز ميغ 29»، بينما شنّت طائرات حربية روسية أول مرة منذ توقيع اتفاق موسكو بين الرئيسين الروسي والتركي لوقف إطلاق النار في إدلب، غارات في المنطقة.
وعلى الرغم من هذه الإشارات، عمدت قوى من داخل النظام، قريبة من إيران، إلى مهاجمة قادة ميليشيات مقربة من العميد سهيل الحسن الذي يقود ميليشيات «النمر»، ويحظى برعاية روسيا وحمايتها. كما سرّب الروس أنباء عن «استياء» موسكو من تراجع النظام «مجددًا.. عن تعهدات واتفاقات سابقة»، تنص على تقييد وصول قوات إيرانية ومجموعات تابعة لطهران إلى محيط مطار دمشق الدولي، وإلى المنطقة الجنوبية (درعا والقنيطرة). ولم تكد أخبار الاستياء الروسي تنتشر، حتى تجددت الغارات الإسرائيلية على جيش النظام بعد انقطاعٍ استمر أسبوعين.
أسباب الخلاف
تدور الخلافات الروسية - السورية حول أولويات تكتيكية تشمل رغبة روسية في إبداء النظام مرونة في مفاوضات الحل السياسي، وقضايا أخرى تتضمن الامتيازات الاقتصادية وإعادة الديون السورية. باتت هذه الخلافات موسمية، وتزداد حدتها باطراد. وقد تعددت العوامل التي ساهمت في تعكير صفو العلاقات بين النظام والكرملين، من إحباط الروس من «عناد» الأسد ورفضه المتكرر التجاوب مع أي اقتراح روسي حول العملية السياسية، وتصريحاته المتكررة المنافية لمقتضيات الجهود السياسية التي يبذلها مبعوثو الكرملين، واستخدامه إيران حائطَ صد في وجه المطالب الروسية، في مقابل الإحباط الذي يشعر به الأسد من «تأجيل» الروس عملية استعادة إدلب مرتين، مرة أواخر عام 2018، ومرة ثانية في مطلع مارس 2020، بعد أن تم التوصل إلى اتفاق موسكو بين بوتين وأردوغان.
يقف وراء هذا التدهور تحولات تمر بها علاقات الجانبين؛ ففي الفترة 2015-2017، كان النظام في ذروة ضعفه ولم يكن لديه القدرة على انتقاد الروس أو مقاومة مطالبهم، لكن مع تحول هذا الميزان، بالتدريج، على مدار الأعوام الماضية، لصالحه، بات النظام أكثر جرأة في انتقاد الروس، علنًا، ورفض «إملاءات الحلفاء».
بمرور الوقت، تغيرت نظرة النظام إلى أهمية العامل الروسي، مقارنةً بما كانت عليه لمّا كان محاصرًا من فصائل المعارضة المسلحة، والتي كانت تهدد مواقعه في كلٍّ من حلب واللاذقية وحماة، وفي دمشق أيضًا. لا شك في أن مكاسب النظام العسكرية انعكست إيجابيًا، على الموقف الروسي، لكن مع مرور الوقت ازدادت الصعوبات أمام الكرملين في السيطرة على النظام، بينما اشتد، بالتدريج، التناقض بين الجانبين حول الأهداف المبتغاة من العمل العسكري.
يصر النظام على تحقيق نصر عسكري كامل، من جهة، ويعتبر أنه أصبح في متناول يده ورهنًا بإرادته مدعومًا بحلفائه الإيرانيين، دونما كبير حاجة إلى الروس، ولو طال أمد الحرب لسنين أخرى. ومن جهة أخرى، كان النظام دائم اللجوء إلى التوتير والتسخين العسكري من أجل تخفيف الضغوط عن كاهله، لكنه يجد أن المصالح الروسية تفرض عليه خطوطًا حمراء وقيودًا تحد من حريته وتحكُمه بالتهدئة مع خصومه (الولايات المتحدة الأميركية، وتركيا على نحوٍ خاص). كذلك الحال بالنسبة إلى الإيرانيين الذين يتحملون عداء واشنطن من دون أن يكون في وسعهم الرد في سوريا بسبب القيود الروسية. وهكذا، بات النظام والإيرانيون في موقع متلقي الضربات من الأميركيين والإسرائيليين من دون القدرة على الرد نتيجةً للقيود الروسية. ومن ثمّ تحولت روسيا في حسابات دمشق وطهران من حليف إلى معرقل لسياساتهما، ليس فقط في سوريا وإنما على امتداد المنطقة.
وفي المقابل، يعتقد المسؤولون الروس أنّ فرصهم في التوصل إلى تسوية سياسية معترف بها دوليًا، تكرس دورهم في الساحة السورية، مرتفعة في الوقت الحالي، وأن الانتظار قد يعرّضهم لمخاطر الوقوع في شرك أميركي لاستنزافهم سياسيًا واقتصاديًا في سورية، أو التورط في مواجهة إسرائيلية - إيرانية في الجنوب والوسط أو بين النظام والأتراك في الشمال الغربي، أو احتمالات تجدد التحالف الأميركي - التركي الرامي إلى تطويق الدور الروسي في شرق البحر الأبيض المتوسط. قد تعقّد هذه الخطوة حسابات الكرملين، وتضطره إلى زيادة تعاونه مع إيران التي تراجع نفوذها الإقليمي تحت وطأة العقوبات التي فرضتها عليها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وستساهم التسوية السياسية للأزمة السورية، في تمكين روسيا من نقل التركيز من الميدان العسكري، حيث يعمل الأميركيون والأتراك على تعزيز مواقعهم على المدى الطويل، إلى الميدان السياسي والاقتصادي، ومن ثمّ إعطاء روسيا الفرصة كي تفسح المجال أمام الإمارات العربية المتحدة، ومصر، والمملكة العربية السعودية، لمواجهة الدور التركي، في سورية.
يعمل الروس على رعاية قوى وشخصيات عسكرية وسياسية واقتصادية سورية، أسوةً بإيران التي لها نفوذ راسخ داخل مؤسسات النظام والمجتمع السوري، وتتبعها ميليشيات، وشخصيات عسكرية وسياسية واقتصادية، وتيارات ظاهرة وغير ظاهرة في الجيش والأجهزة الأمنية. إلا أن المساعي الروسية في هذا الميدان تصطدم بممانعة الأسد، الذي تتملكه مخاوف من أن تتحول أي شخصية أو تيار سوري مدعوم من الروس إلى بديل منه. اضطرت هذه الحسابات بشار الأسد إلى ترك منصب رئيس الأركان شاغرًا نحو عامين ونصف، ولا يزال كذلك حتى الآن، وتكليف وزير الدفاع العماد علي أيوب بتسيير مهماته، على الرغم من ضعف حالته الصحية. يضغط هذا الخليط المتنافر من الأسباب على العلاقات بين النظام والروس.
على الرغم من ذلك، يبدو الإطار الاستراتيجي العام للعلاقات بين روسيا والنظام راسخًا؛ إذ تتحدد الاستراتيجية الروسية في سوريا بمحددين أساسيين: الأول صعوبة إيجاد بديل من بشار الأسد، والثاني رغبة موسكو في الاستفادة القصوى من الموقع السوري في مقارعة النفوذ الأميركي، عبر تنفيذ نقلات استراتيجية في الشرق الأوسط، آخرها نقل طائرات حربية من قاعدة حميميم العسكرية في اللاذقية إلى أحد المطارات الليبية، لدعم خليفة حفتر بعد تراجع قواته أمام قوات حكومة «الوفاق» المعترف بها من جانب الأمم المتحدة، والمتحالفة مع تركيا. لقد مثلت ليبيا، ساحة اتفاق مثالية بين النظام والروس؛ إذ اعترف النظام بحكومة شرق ليبيا المدعومة من حفتر، وسلمها مبنى السفارة الليبية في دمشق، وسهّل عملية تجنيد مقاتلين سوريين، للقتال في صفوف المرتزقة الروس التابعين لـ «فاغنر» إلى جانب ما يسمى «الجيش الوطني».
الدور الإيراني
يقبع الإيرانيون في خلفية المشهد جاهزين دائمًا لدعم النظام عندما تشتد الضغوط الروسية عليه، كما يعملون في الوقت نفسه على تهدئتها نتيجة استمرار الحاجة إلى الدور الروسي في المواجهة التي تتصاعد مع واشنطن. هذا ما يفسر الزيارة التي وصفتها وزارة الخارجية الإيرانية بـ «المهمة» لوزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إلى دمشق ولقاءَه برئيس النظام السوري في مايو 2020، على الرغم من تفشي جائحة كورونا، في رسالة سياسية أراد من خلالها الجانبان التأكيد على الوقوف معًا في مواجهة الضغوط المتزايدة. ويُعتقد أن الإيرانيين سعوا إلى الاستفادة من خلاف الروس مع الأسد، عبر تصعيده، قبل أن يتوسطوا، سرًا لحلحلته؛ وكان لافتًا أن أولى الإشارات على انحسار التوترات ما بين النظام والروس أتت من طهران على لسان السفير الروسي لدى إيران.
لقد كان للميليشيات القريبة من إيران دورٌ في صد المعارضة المسلحة السورية واحتواء خطرها، لكن حاجة الروس إلى الإيرانيين تراجعت تراجعًا ملحوظًا، وكلما تحركت موسكو نحو دفع العملية السياسية، ظهرت إيران في الجانب المعرقل للجهود الروسية. وفي حين يرفض الطرف الإيراني أي تسوية سياسية للأزمة السورية لا تكرس انتصار النظام عسكريًا، وتحقق مصالح إيران الاستراتيجية في سورية، يسعى الروس إلى احتكار السيطرة على سوريا وتحويلها مرفأ لهم على المتوسط، ومركزًا لنفوذهم في الشرق الأوسط، وأيضًا ساحة للاستثمارات والمصالح الروسية ومنصة لرجال الأعمال الروس كي يعقدوا الشراكات مع نظرائهم في الشرق الأوسط.
لقد شكلت الحملة الإعلامية الروسية التي استهدفت بشار الأسد، ستارًا كثيفًا لتحركات روسيا المصممة لاستغلال المصاعب الإيرانية الناجمة عن تفشي جائحة كورونا ومقتل الجنرال قاسم سليماني والمواجهة الأميركية - الإيرانية وأوضاع العراق ولبنان المعقدة؛ بهدف زيادة تأثيرها داخل سوريا وفرض نفسها أكثر على معادلات القوة في الشأن السوري.
copy short url   نسخ
22/06/2020
1356