+ A
A -
د. فاطمة سعد النعيمي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إن من رحمة الله سبحانه: ابتلاء الخلق بالأوامر والنّواهي رحمة لهم وحميّة لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به. ومن رحمته: أن نغّص عليهم الدّنيا وكدّرها؛ لئلّا يسكنوا إليها ولا يطمئنّوا إليها ويرغبوا عن النّعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم. ومن رحمته بهم: أن حذّرهم نفسه؛ لئلّا يغترّوا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به. ومن رحمته أن أنزل لهم كتبا، وأرسل لهم الرّسل لكنّ النّاس افترقوا إلى فريقين؛ فأمّا المؤمنون:
فقد اتّصل الهدى في حقّهم بالرّحمة فصار القرآن لهم هدى ورحمة. وأمّا الكافرون: فلم يتّصل الهدى بالرّحمة فصار لهم القرآن هدى بلا رحمة.
وهذه الرّحمة المقارنة للهدى في حقّ المؤمنين رحمة عاجلة وآجلة، فأمّا العاجلة فما يعطيهم الله في الدّنيا من محبّة الخير والبرّ وذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته، والفرح والسّرور والأمن والعافية. قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فأمرهم- عزّ وجلّ- بأن يفرحوا بفضله ورحمته، فهم يتقلّبون في نور هداه ويمشون به في النّاس ويرون غيرهم متحيّرا في الظّلمات، فهم أشدّ الناس فرحا بما آتاهم ربّهم من الهدى والرّحمة. وغيرهم جمع الهمّ والغمّ والبلاء والألم والقلق والاضطراب مع الضّلال والحيرة.
وهذه الرّحمة الّتي تحصل للمهتدين تكون بحسب هداهم، فكلّما كان نصيب الواحد من الهدى أتمّ كان حظّه من الرّحمة أوفر، فتجد الصّحابة كانوا أرحم الأمّة كما قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).
والصّدّيق أرحم الأمّة بالأمّة، فقد جمع الله له بين سعة العلم وسعة الرّحمة. وهكذا الرّجل كلّما اتّسع علمه اتّسعت رحمته. وقد وسع ربّنا كلّ شيء رحمة وعلما فوسعت رحمته كلّ شيء، وأحاط بكلّ شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه.
{ أستاذ التفسير وعلوم القرآن
كلية الشريعة جامعة قطر
copy short url   نسخ
17/06/2020
2034