+ A
A -
أسامة أبو ارشيد كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن
هي محطة جديدة من محطات الفوضى الكثيرة التي تعيشها الولايات المتحدة منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. لم يكن التحقيق في تواطؤ مزعوم بين حملته الانتخابية وروسيا في انتخابات عام 2016 أولها، ولكن ربما كان أبرزها، ولم يكن هناك انقطاعٌ في الإثارة بين تلك المحطة ومحطة ضغطه، العام الماضي، على الرئيس الأوكراني، لإطلاق تحقيق في مزاعم فساد تطاول نجل منافسه الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، جو بايدن، والتي أدّت إلى عزله في مجلس النواب وتبرئته في مجلس الشيوخ، مطلع هذا العام. وإذا كان كثيرون ظنوا أن فشل إدارته الذريع والمخزي في التعامل مع جائحة كورونا، والذي جعل من الولايات المتحدة بؤرتها عالمياً، سيكون نهاية المطاف قبل الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر المقبل، فإن ترامب أثبت أن في جعبته مفاجآت كثيرة.
نراه اليوم يتصدّى لأزمة تمزّق بلاده عرقياً وسياسياً، على خلفية الاحتجاجات الغاضبة في طول البلاد وعرضها، بعد أن لفظ الأميركي الأسود جورج فلويد، في 25 من الشهر الماضي (مايو) أنفاسه بعد أن بقي شرطي أبيض جاثماً بركبته على رقبته نحو تسع دقائق في مدينة منيابوليس. ومع أن وحشية الشرطة في التعامل مع الأميركيين السود ليست أمرا جديدا، إلا أن وجود ترامب في الرئاسة أعطاها زخماً فريداً، خصوصاً ونحن على بعد خمسة أشهر من الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
من السهل أن يلجأ بعضهم إلى «نظرية المؤامرة» التي لا يتردّد ترامب نفسه في تأكيد وجودها، زاعماً هو ومن حوله أن «الدولة العميقة» تعمل على إفشاله. ومعلومٌ يقيناً أن دوائر في الحكومة الأميركية تقوم بذلك فعلاً، ولكن ليس بالضرورة بهدف إجهاض ما يراها إنجازاته وطموحاته لأميركا، بقدر ما قد تكون من منطلق حماية أميركا منه. وفي عام 2018، كتب أحد «كبار المسؤولين» في إدارته مقالاً وُقِّعَ باسم مجهول في صحيفة نيويورك تايمز عنوانه: «أنا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب». كانت سابقةً غير معهودة سياسياً وصحافياً، خصوصاً من صحيفة مرموقة بحجم «نيويورك تايمز». ولكن الضرورة حينها اقتضت ذلك، خصوصاً ورئيس الولايات المتحدة يشن حرباً على الأجهزة الاستخبارية التي تعمل تحت إمرته لصالح روسيا. ولم يتردّد كاتب المقال المجهول في إطلاع العالم على أن وزراء في إدارة ترامب ناقشوا في الأشهر الأولى لحكمه تفعيل التعديل الدستوري الخامس والعشرين بهدف عزله.
نعرف الآن نتيجة تلك المحاولات لعزله، أو تهميشه، أو حتى لعقلنة سلوكه. كلها فشلت، وخرج ترامب منتصراً، فهو يملك الحزب الجمهوري الذي يسيطر على مجلس الشيوخ، وبالتالي عزّز نفوذه في النظام القضائي أيضاً. ولا ينسى هنا أن عند ترامب قاعدة انتخابية صلبة ومتمسكة به مهما فعل. هل تكفي وحدها لإنجاحه في الانتخابات المقبلة؟ هذه مسألة أخرى، وبحاجة إلى قراءة وافية في سياق آخر، ولكن فرص ترامب في النجاح والخسارة قد تكون أقرب إلى التساوي، وهذه المعضلة الأبرز التي تقف أمامها الولايات المتحدة.
الأزمة التي بصددها أميركا اليوم ليست جديدة عليها من ناحية المنشأ الأساس لها، فالسود الأميركيون يعانون منذ أكثر من 250 عاماً، عندما جيء بهم عبيداً مخطوفين من أفريقيا إلى الأرض المكتشفة حديثاً. وفي ستينيات القرن التاسع عشر، وقعت حرب أهلية طاحنة بين الشمال والجنوب على خلفية محاولة الرئيس أبراهام لينكولن إلغاء نظام الرق في الولايات الجنوبية. وعلى الرغم من انتصار الحكومة الفيدرالية المدعومة من الولايات الشمالية، بقي السود بلا حقوق عملية. وفي خمسينيات القرن الماضي وستينياته، انطلقت حركة الحقوق المدنية التي طالب فيها السود بإلغاء نظام التمييز العنصري الممارس بحقهم ومساواتهم بنظرائهم من المواطنين البيض. وبعد كفاح مرير، كان لحركة الحقوق المدنية ما أرادت، غير أن القوانين كانت تقول شيئاً، والممارسة على الأرض تسير في اتجاه آخر. لم تشفع لهم التعديلات الدستورية والقوانين الفيدرالية التي رسخت حقوقهم، وأكدت تمتعهم بكامل حقوق المواطنة أمام بطش أجهزة الشرطة وتحيز القضاء، فكانوا الأكثر تعرّضاً للقمع، ومثلوا الشريحة الأوسع من بين نزلاء السجون الأميركية نسبةً إلى حجمهم السكاني. كما بقي التمييز في السكن والعمل قائماً، وعانوا من التهميش وضعف البنى التحتية، خصوصاً في القطاعات الخدماتية والتعليمية والطبية. وجرّاء ذلك، وفي ظل جائحة كورونا، كانت أحياؤهم الأكثر تضرّراً، صحياً واقتصادياً.
ثار السود كثيراً على الظلم الممارس بحقهم، حتى الرئيس الأسود الأول في تاريخ أميركا، باراك أوباما، لم يستطع أن يكبح جماح ذلك التمييز العنصري، خصوصاً من رجال الأمن.
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
06/06/2020
343