+ A
A -
سهـــام جاســـم
ورقة رسمٍ بيضاء مستطيلة محدودة المساحة يسكبُ فيها الطفلُ ببراءة كلّ ألوان العالم التي زهت في عينيه وراقته رؤيتها، فالشمسُ في الطرفِ العلوي منها رُسِمَت برأسٍ مثلثٍ وعلى الطرف الآخر منها تبدو بنصفِ دائرةٍ تتفرعُ منها بضعة خطوط مستقيمة إنّها الأشعة وإلا فكيف ستُضاء لنا الأيام ؟ والطيور في قلب الورقة تقدِمُ دوماً مُبشِرة من بعيد تُلَوِحُ بجناحين مفرودين على هيئة الرقم «7»..
أمّا تلك الأرضُ المُنبسطة تحت قدميهِ فهي تضمُّ أجمل الأشياء وأثمنها لديه، فالزهور المذهلة تبدو بحجم الشجرة الضخمة والحشائشُ الرقيقة رُسِمَت في مثل طولها، إنّهم لا يعرفون الحجم الحقيقي للأشياء ولا يمتلكون القُدرة على قِياس ذلك مُطلقاً، إنّما بوسعهم تقدير الحب والجمال الذي رأوه من حولهم وتقدير حجمه والمساحات التي يودون إتاحتها لأجل كلّ ذلك...
ومن خلال ذلك العالم المرسوم تتكون أبجدية تلك اللغة القريبة إلى قلب الطفل واستيعابه، فتجده في أفلام الكرتون يستلطف شخصية الأسد وينسى وحشيته، ويتعاطف مع بُطء السُلحفاة ويرثي لحالة الكسل التي تُعَيَرُ بها دائماً، وبعيداً كلّ البعد عن البشر يأنس بحكايا الحيوانات وقصصهم ويقنعُ بالكثير من عالم الخيال وهو لا يملكُ إلا ذلك العقل الذي لم يُدرك واقعه تمام الإدراك بعد...
ويشعر بتلك الروح اللطيفة التي تُتقنُ مخاطبته من خلف الدُمى المُتحركة ويقتنع بذلك الشخص الذي يُحركها حينما يكونُ دُمية، مثلما يقتنعُ تماماً بشخصيته المُتخلية عنها..
ثمّ إنّه يرى بوضوح ذلك الضعف المتخفي خلف كلّ شخصيةٍ شريرةٍ وتُشعرك ضحكاته عليه بمقدارِ إذلال الحماقِة لصاحبها..
فالطفل حتى يستوعب ويفهم ما حوله يحتاجُ إلى اللجوء لعالمه الخاص، ذلك العالم الذي قد تظنّه محدوداً للوهلةِ الأولى ولكنّه ليس كذلك، المهم أنّه عالمٌ يبحثُ عن البراءة والجمال والحب بصفة مطلقة في هذه الحياة...
أمّا نحنُ الكبار فإننا نعكسُ صُوَرَ الحياةِ وصُوَرنا لنراها على كلِّ المرايا المُتاحة لدينا مراراً وتَكراراً، والرؤية لدينا تحتاج إلى رؤيةٍ أخرى تليها أخرى، وبعدها قد نصل إلى نتيجةٍ أو قد نتوهم الوصول إليها..
وعندما يتضح لنا أننا في الكثير من الأحيان لا نصل بل ما يصلنا عوضاً عن ذلك ما هو إلا إحساس غريب بأنّ هذا العالمَ لم يقدم اعترافه بنا بعد، مازال يرانا أصغر من أنْ نستوعبَ حقيقته وأننا حتى هذه اللحظة مستمرون في تبادل تلك النظرات الغامضة المُستوضِحة معه...
وفي الحقيقة، هنالك الكثير من البشر الذين لم يستوعبهم العالم نفسه بعد، وعلى ما يبدو لم يستوعبْ وجودهم بل لم يتقبل مجرد انضمامهم للحياة، إنّهُ يعجز عن إدراكِ قيمتهم الحقيقية، ولم يجعل لحقوقهم قيمة تُذكر ينبغي عليه حفظها..
إذا كانت للكتب حقوق طبعٍ محفوظة، فإنسان اليوم لا توجد لحياته حقوق محفوظة شأنّه شأن ورقةٍ نفضتها أغصان شجرتها مستغنية عنها بسواها، ثمّ واجهتها بالتخلي ذات صباحٍ..
والتخلي لا قانون له ولا عُرف...
واللؤمُ محكومٌ بطبعِ اللئيم، لا بكرمِ الكريم وطبعه الأصيل..
هل تظنّ أنّهم استوعبوها قبل الكبار، أعني أولئك الصغار وبنوا لهم عالماً خاصاً على هامش هذا العالم ؟!
عالمٌ يُشبهنا، حتماً سيكون عالماً لنا...
كلمـــة أخيــــرة
أتركها لغسّان كنفاني من مجموعته القصصية عالمٌ ليس لنا، حيث يقول أحد أبطالها لأصحابه:
«حينما تتكلمون أستمعُ إليكم وأصدقكم، ولكن لما أبدأ الكلام تختفون، حينما تكونون أنتم ليس بوسعي أن أكون وحينما أكون أنا ليس بمقدوركم أن تكونوا...».
copy short url   نسخ
01/06/2020
1151