+ A
A -
وتتواصل القراءة في رواية أيام بغداد للكاتب خليل الجيزاوي إذ تحتاج النصوص من المتلقي أن يبني رؤى تتجاوز أفق حياته المعيشة واليومية؛ لتفتح عليه تجارب جديدة، بحيث يتعامل القارئ مع النصوص الروائية فيكشف عن خصوصيتها من حيث بنائها ودلالتها وحمولاتها، وهناك عتبات تميز نصًّا عن نصٍّ تُساعد الباحث في الوصول إلى أغوار النص، ومحاولة تأويله.
الحوار:
إن تقنية الحوار عنصر تكويني في البناء السردي، وهو وسيلة بيد الروائي المقتدر تجسده رؤيته للكون، وإحساسه بالحياة ومهارته في رسم أبعاد شخصياته الروائية وإمكاناته الفكرية، وهي مهمة للقارئ الذي يعتمد إقباله على جاذبية الحوار وقدرته على الإقناع والإثارة، ومن هنا يتنوع الحوار السردي، ويتمدد لقربه لقربه من الحدث أو بعده عنه، ووفقا للوظيفة البنيوية التي يؤديها في السرد، فالحوار السردي يعمل «السير بالعقدة أي تقدمها، والكشف عن الشخصيات كما ينبغي أن توافق أجزاء الحوار المشهد التمثيلي، أو السياق القصصي أو الروائي أو المسرحي الذي تقدم فيه» كما يقول روجوم بسفيلد
فالحوار متعدد الأبعاد في رواية أيام بغداد؛ فهو يكشف عن سرِّ الشقفة التي يضعها الشيعي تحت جبهته وهو يصلي(أخذوا عجين التراب المشبع بدم الحسين، وصنعوا منه هذه الشقفة، وظل عجين التراب بالدماء تتوارثه الأجيال، مثل خميرة الخبز التي كانت توضع في الدقيق زمان، وهي عند المسلم الشيعي كالمصلية المرسوم عليها الكعبة الشريفة عند المسلم السني).
ودار حوار محمد مع الحاج جبر، وفسر له قصة وجود صور صدام حسين في كثير من الأماكن، وكان لا يمر أسبوعٌ إلا ويتم كسر زجاج محل الحلاقة ونصيحة الضابط العراقي لصاحب محل الحلاقة (اشتر يا مصري صورةً كبيرةً للقائد المهيب الركن صدام حسين وألصقها على زجاجِ المحلِ).
وقد شكَّل الحوار جزءا هاما داخل أيام بغداد؛ لما له من وظائف عدة، فالسرد يتوقف لخلق فجوات مكانية داخل النص، يملؤها بجمل حوارية صوتية -الزمن- تظهر فيها معلومات غير مباشرة، عن طريق الحوار بين شخصين، فالبنية الصوتية الزمنية للحوار تحيل لبنية عميقة تغوص داخل ثنايا الحوار، مغيبة البنية المكانية بوصفها مشتقة من الخطاب المباشر.
هناك نوع آخر من الحوار، وهو الحوار السردي، وهو ذلك التواصل بين السارد وبين القارئ دون وسيط الروائي أو شخصيات الرواية، هو صوت الروائي نفسه، إلا أن قواعد التقنية السردية تنهض أساسا على قانون (الاتفاق والتواؤم) بين المتلقي والمبدع، فكلاهما اتفقا على أن يتقبل القارئ النص الروائي كقطعة من الحياة، ومن هنا فإن السارد- بهذا المعنى- يحاور القارئ طالبا منه الدعم طوال زمن السرد، وذلك بتصديق كل ما يُروى من وقائع وأحداث، ويحتفظ السياق السردي باستقلالية صوت السارد عن صوت الروائي أو شخصيات الرواية، فهاجس الإبداع لا يحمل هما فرديا فحسب وإنما هو نتاج وعي شمولي، فلا يمكن عزل النتاج الإبداعي عن سياق البيئة التي وجد فيه، بل يخضع بالضرورة إلى متغيرات هذا السياق.
كما وظَّف السارد تقنية الأحلام والكوابيس؛ لكشف كيان الشخصية الداخلي فتظهر أقرب وأوضح، وكأن الأحلام بوح خفي عن هذا المكنون(الحلم بكريمة).
الأنثى والأغاني
تدخل قصة أيام بغداد لدى خليل الجيزاوي في نسيج من العلائق الاجتماعية، وانعكاس ذلك في نسيج إبداعي وفني يكشف هذا النسيج عن طريق العلائق اللغوية، فهذا العمل يروي الكثير من المكنونات عبر استعمال الأغاني؛ للتعبير عن دواخل الشخصية، وأن الأغنية تقوم مقام التصريح المباشر.
الشخصيات تستخدم الأغاني لتوصيل مبتغاها (وحين همّ بالدخول استقبلته كريمة على غير العادة، بأغنية (مشوارك حبيبي) تترددُ وبصوتٍ عالٍ من كاسيت بهو الفندق، كي تلفت نظر محمد إليها، هذه الأغنية نفسها استخدمتا ضحى عندما سافر محمد إلى مصر في إيصال مشاعرها
(وما أن فتح الرسالة حتى هلّتْ رائحةُ العطرِ الخَاصِ بِضُحَى، وَضَعَ الرسَالةَ على وجهِهِ؛ ليتنسم بعض الذكريات الجميلة والرائعة، وقرأ:
أستاذي الحبيب محمد جمال الدين...
أرسل لك أغنية سعدون جابر علّها تقولُ ما أخجلُ أن أقولَهُ لك:
مشوارك حبيبي
مشوارك حبيبي أبد ما منه مشوار
يا اللي بصوتك نغم وعيونك أسرار
اللي يشوفك يشوف القمر بالدار
واللي يحبك حبيبي لازم يغار
لو رسام أرسمك ورد وغيوم)
وتتكرر الاستعانة بالأغاني في توصيل معاني اللهفة والشوق في عدة رسائل من ضحى إلى محمد عبر بريد الكلية، وهذا يدفع إلى البحث عن الإيقاع السمعي داخل فصول الرواية.
الأنثى هنا في هذه الرواية لا تكتم مشاعرها، بل تفيض في التعبير عنها (وما إن همّ يكتبُ لها عنوانه على إدارة رعاية الشباب بكلية الآداب، حتى فوجئ بها تحتضنُهُ باكيةً، وتُقبلُهُ قبلات سريعة وخاطفة، وهي تهمسُ بحضنِهِ قائلةً: ترى أحبك يا محمد، أحبك، هَلْ فَهِمْتَ؟ عُدْ سَريعًا مِنْ أَجْلِي.
انفلتُ سَريعًا من بين يَديها خَوفًا من رؤيةِ الحاج لهما، وهو يرددُ:حاضِر يا ضُحَى حاضر، أعدك، ثقي بوعدي لك).
(وانتظرتْ سوزان أن يستديرَ الحاج بوجهه ناحية السيارة،واندفعتْ ناحيته تحتضنُهُ، وتقبلُهُ قبلات سريعة وطويلة، وأمام دهشة كل العاملين، وهي تقولُ: عُدْ سَرِيعًا يا أستاذ، والله أحلى مدير عملتُ معه، في أمانِ اللهِ).
اللغة:
لقد مزج الروائي بين اللغة الفصيحة واللهجة العامية في شبه انسجام بينهما، أما لغته الفصحى فقد استخدمها في إدارة الحدث، في النص الروائي، وهذه اللغة تساب ببساطة وسهولة تناسب الأحداث، فهي لغة بسيطة ومناسبة؛ لأنها تناسب التصاعد الفني للحدث، ومنسجمة مع الشخصيات ومتوافقة مع جوانب الحدث وروحه الدرامية، علاوة على التوافق مع الشخصيات وعوالمها، وعاداتها وتقاليدها، وأما لغته العامية فقد استخدمها للتعبير في بعض الحوارات بينه وأصدقائه واقاربه (عازم إخواتي ع العشاء يا عم عادل، أنا قعدت عندكم خمسة أيام، أكل وشرب ونوم، يلا يا شباب لقمة هنية) وقد تكون أقرب على الفصحى، لكن العامية المنتشرة في ثنايا النص الروائي، هي العامية التي تستخدم شخصية الأنثى للتعبير عن مكنونها ومشاعرها عن طريق استخدام الأغاني، كما حدث من كريمة وضحى(حتى وصلت رسالة ضُحَى الثالثة تقول فيها:
حبيبي الغالي محمد جمال الدين
ايش لونك يا غاتي... ايش لونك يا حِبَيّبْ) (من الأول يا حبيبي
لا رايد مراسيل/ ولا رايد هديه/ رايد كلمة حبيبي تجمعنه سويه/
من الأول يا حبيبي عرفتك مو إليه/وعرفت الزمن يندار وتصير وياه عليّهْ
ولو ما عندك أعذار/صرت مجبور أعذرك/جميع أذنوبك أتهون/إذا نقعد سويه/وأضل أن أعتذر لك).
إن استخدام الروائي اللغة الفصيحة البسيطة زاد من قوة الرواية، وقوة تفاعل شخصياتها؛ لتنطلق إلى فضاء تعبيري معبّر.
العمل والإخلاص:
يقتنص الكاتب صورة عن الواقع العراقي وكذلك المصري، ويصور عددا من العلاقات الاجتماعية التي ترفع من قيمة الأخلاق والقيم، فنجد أن محمدا كان يحافظ على الود ورد الجميل لمعارفه(كان يتصل تقريبا كل أسبوع بابن خالته عادل في سامراء، ُ ُ ُ ويتصل بالحاج جبر في بغداد للاطمئنان عليهما، ويتصل بيوسف في مدينة الحلة) وظهرت أخلاق القرية باستقبال عادل ورفقاه؛ حيث تتجلى هويتهم وطباعهم القروية الجميلة؛ فقد حاول الجميع أن يقدموا له الكثير من الفلوس العراقية على سبيل السلف حتى يستقر ويجد عملا مناسبا، كما كان مخلصا في عمله إلى درجة ملفتة(كأن هذا الفندق ملك لك ولأبيك حقا وصدقا ويقينا) وكان شخصية إيجابية في أكثر من موقف لم يستسلم للوضع العام؛ فمن موقفه مع السائق في بداية وصوله لميناء العقبة، وعدم استسلامه لعملية النصب التي قام بها، وتصميمه على إعادة فارق الأجرة إلى الركاب، وعندما ذهب إلى السوق بالنجف ووجد من يحرف حديث الرسول-صلى الله عليه وسلم-(الباذنجان دواء وشفاء من كل داء) (الأسود، الأسود، الحبة السوداء شفاء من كل داء.).
والنصوص القصصية تتيح تدريبا للمتلقي (قدرة الحكم) التي تمكن الفرد من فهم الخاص بوصفه مظهرًا للعام، أو كما سماها كانط «الحكم المتأمل».
copy short url   نسخ
01/06/2020
3390