+ A
A -
مهنا الحبيل باحث عربي مستقل مدير المركز الكندي للاستشارات الفكرية
توفي الشيخ الترابي رحمه الله عام 2016، ويعنينا هنا أن مراجعاته ونقده للسلطة التي تعرض فيها للسجن مراراً، والتضييق والتخابر الدولي ضده، حسب ما ذكر، بحيث يلصق به كل خطيئة نفذوها أو تورطوا فيها، بما فيها محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل مبارك، التي رفضها بشدة.
وبما فيها تغطيات كبرى لفشل الإدارة العسكرية، ثم التعلل للأنظمة في الخليج وغيرها بعباءة الترابي، فنَشَر شهادته متأخراً بالنسبة لمخالفيه، ولكنها اليوم أيضاً، تؤرَّخ بأنها وثيقة نقدية، حررها قبل أن يعلم بسقوط النظام الذي لم يدركه، فلم يكن ذلك التحرير، كون أن خصميه البشير وعلي عثمان طه في السجن، وإنما كان حصيلة موقفه وحرصه على تقديم التجربة.
هذا ما يسجل له، ولكن ما يسجل عليه أيضاً، فيه قدر ليس بالسهل من تحميله المسؤولية، ولكن الترابي قطع الطريق عن منتقديه، ليس لعزلهم عن الإفادة من نقد تجربته وحتى ملاومته، والتي حمّل فيها أيضاً شورى الحركة الإسلامية التي دفعت بعلي عثمان طه وغيره، وعدد من السياسات التي أصر وتمسك بأنها كانت تتم بالتصويت، ثم قال إن كان عليَّ مسؤولية أقر بها، فأنا أرجو أن يكون ما لقيته مخففاً عني ما سألاقيه يوم العرض الأكبر، وبالتالي مضى الرجل إلى رحاب ربه، وترك للسودانيين تجربة مهمة، أهم من جلد جثمانه ميتاً.
فالأهم اليوم فهم دروس تجربته، ليس للإسلاميين وحسب، ولكن لكل تيار مدني يفرز الأيديولوجية عن مشروع حلم الدولة المدنية في السودان، وأن مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية والتمكين التنفيذي المحمي شعبياً، للسلطات الدستورية وفصلها المقنن، هو الجامع المشترك، وتحقيقه ليس بالسهل، وهي تحتاج إلى مراحل واسعة وقبول انتقالي مرن، يحمل آلاماً كبرى، وتحديات واضطراريات تقاطعية، مع دول ومصالح، لكن الكارثة لو تحول هذا التقاطع لمشروع وظيفي بين محوري الصراع فيما بعد الربيع العربي.
وهنا نلفت النظر إلى أهمية ما أثاره الترابي، من أن قبل وصوله للتفكير في الانقلاب العسكري، كان هناك فشل كبير ومتواصل للأحزاب التقليدية، أما الجانب الثاني فهو التسابق على الانقلاب بين الحركة الشيوعية والقوميين العرب، وبين قرار الإسلاميين الولوج لهذه المهمة السيئة، ويُشير الترابي في بقية تجربته إلى قدرة المكون العسكري على تحييد القدرات المدنية واستيعابها، وبالتالي هنا يستفيد الحراك المدني الموحد، الذي يواجه سلطة عسكرية قوية اليوم، ليسعى لنزع أكبر مساحة مدنية منها، وكيف يُحيّدها لصالح الشعب تدريجيا.
وأن فكرة الصراع الموسمي الذي يُشعل مع كل الإسلاميين، لن يساعد في حماية المشروع الحلم، وهذا لا يُلغي محاسبة المتنفذين الذين تورطوا في جرائم ضد الشعب السوداني، دموية أو فساد مادي جشع، لكن الأمر يحتاج إلى وعي عميق وتأني في الصراعات الموسمية.
وفهم من وراء هذا التصعيد، والدور الإقليمي العربي والدولي، الذي كان يحرك المشهد، ويُجري الاتصالات منذ زمن الترابي، والحديث هنا ليس جديداً بالطبع، والمثقف السوداني يعي ما يعيشه وطنه، لكن الخطير غياب شخصيات توافق وطني اجتماعي، تضبط الموقف السياسي.
والمجموعة الوطنية التي يحتاج لها السودان، تنطلق من القدرات الشبابية، التي تستبق الصراع على مستقبل الدولة، وتعزل مواسم التوظيف لها، وتُحدد أين مصالح الشعب، وأين القيم التي يتمسك بها، وتُحترم كغالبية شعبية، في حين نقضها لا يُمثل أي أثرٍ حقوقي ولا تنموي، وإنما تغذية للصراع الديني العلماني، بدلاً من تحرير مواطن التمكين الدستوري المدني لصالح الشعب، الذي يواجه تحديات وطموحات الأقاليم بعد مظالم دارفور الشنيعة.
وقد تابعت تكوّن مجموعات متعددة من الشباب ذوي خلفية إسلامية نهضوية، ساهمت في الثورة، تسعى للاتحاد مع رفاقهم عبر الطريق الثالث لصناعة السودان الجديد، وهذه الطليعة مهمة جداً، للحضور والمشاركة، وتوسيع قاعدتها، التي تستقطب الشاب الذي رفض التنظيم الحزبي للتدين التقليدي للطوائف، أو الحركي المعاصر، وفي ذات الوقت مدّوا جسورهم مع كل الطيف المدني، ليعبر بروحهم ورفاقهم سودان العدالة الجديد.
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
31/05/2020
1014