+ A
A -
د. فاطمة سعد النعيمي أستاذ التفسير وعلوم القرآن كلية الشريعة جامعة قطر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
ذكر المفسّرون أنّ هجر القرآن له جانبان: أحدهما يتعلّق بالقرآن دون أخذ له، وهذا صنيع الكفّار والمنافقين، والآخر يتعلّق به بعد الإقرار بأنّه كلام الله الّذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا صنيع بعض المسلمين الّذين لا يقرأون القرآن، أو يقرأونه لا يجاوز حناجرهم، فلا يعملون به، ومن هؤلاء صنف يحفظ القرآن أو شيئا منه ثمّ يهجر القراءة حتّى ينسى ما قد يكون حفظه منه. وعلى ذلك فإنّ هجر القرآن: هو الإعراض عنه أو اللّغو فيه والقول فيه بغير الحقّ- كالزّعم بأنّه سحر أو شعر ونحو ذلك من سيئ القول- وترك تلاوته أو العمل به أو نسيانه بعد الحفظ.
ولهجر القرآن مظاهر عديدة منها: القول فيه بغير الحقّ، وهذا صنيع الكفّار الّذين حكي عنهم في قوله تعالى: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)، قال القرطبيّ: أي قالوا فيه غير الحقّ من أنّه سحر أو شعر، وقال الطّبريّ: يعني قولهم فيه السيئ من القول، فقالوا غير الحقّ، الإعراض عن القرآن واللّغو فيه، يقول الطّبريّ: وذلك أنّ الله أخبر عنهم بأنّهم قالوا (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) وذلك هجرهم إيّاه، ترك تلاوة القرآن بالكلّيّة، وقيل معنى مهجورا «متروكا» وما جاء عن ابن عبّاس: «الّذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب»، نسيان القرآن بعد حفظه، وإلى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى... إلى قوله تعالى (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)، ترك العمل بالقرآن، ومعنى أن يجعل الإنسان القرآن خلفه أن يهمل تلاوته أو العمل به.
ويختلف حكم هجر القرآن باختلاف نوع الهجر، فإن كان الهجر بالإعراض عنه واللّغو فيه فهذا كفر صراح، وإن كان الهجر بمعنى التّرك المؤدّي إلى النّسيان بعد الحفظ فقد ذكر ابن حجر أنّه من الكبائر، ونقل عن بعض العلماء أنّ محلّ كون نسيان القرآن كبيرة عند من قال به مشروط بأن يكون عن تكاسل وتهاون، وهذا احتراز عمّا لو اشتغل عنه بمرض مانع من القراءة، وعدم التّأثيم بالنّسيان حينئذ واضح، لأنّه مغلوب عليه لا اختيار له فيه.
أمّا إذا كان الهجر متعلّقا بعدم العمل به فذلك معصية يتوقّف كونها كبيرة أو صغيرة على نوع المخالفة ذاتها، وأمّا إذا كان الهجر بمعنى ترك التّلاوة، فإن كان يقدر عليها ولم يفعل فهو كالبيت الخرب وإن لم يكن قادرا فإنّ الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها، هذا إلّا فيما تصحّ به صلاته فإنّه واجب على كلّ مسلم ولا يجوز تركه بحال.
ولهجر القرآن أنواع: أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. والثّاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به. والثّالث: هجر تحكيمه والتّحاكم إليه في أصول الدّين وفروعه، واعتقاد أنّه لا يفيد اليقين وأنّ أدلّته لفظيّة لا تحصّل العلم. والرّابع: هجر تدبّره وتفهّمه ومعرفة ما أراد المتكلّم به منه. والخامس: هجر الاستشفاء والتّداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التّداوي به، وكلّ هذا داخل في قوله تعالى: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. والسّادس: الحرج الّذي في الصّدور منه، فإنّه تارة يكون حرجا من إنزاله وكونه حقّا من عند الله. وتارة من جهة المتكلّم به أو كونه مخلوقا من بعض مخلوقاته ألهم غيره أن تكلّم به، وتارة يكون من جهة كفايته وعدمها وأنّه لا يكفي العباد، بل هم محتاجون معه إلى المعقولات والأقيسة أو الآراء أو السّياسات. وتارة يكون من جهة دلالته وما أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب، أو أريد به تأويلها وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة. وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة، فهي ثابتة في نفس الأمر أو أوهم أنّها مرادة لضرب من المصلحة.
فكلّ هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن، وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم. ولا تجد مبتدعا في دينه قطّ إلّا وفي قلبه حرج من الآيات الّتي تخالف بدعته. كما أنّك لا تجد ظالما فاجرا إلّا وفي صدره حرج من الآيات الّتي تحول بينه وبين إرادته. فتدبّر هذا المعنى ثمّ ارض لنفسك بما تشاء.
فمن مضار هجر القرآن: إنّ القلوب إذا لم تعمر بالقرآن سكنتها الشّياطين، فيضعف الإيمان بالله- عزّ وجلّ- وسائر المغيّبات. وإنّ من هجر القرآن ترك تدبّره وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره، كمن يقرأ القرآن ولا يعمل بموجبه تكون قراءته عليه لا له، ومن قرأ القرآن ليقال إنّه قارئ وليرائي به النّاس فهو منافق، من أوّل من يسحب على وجهه في النّار يوم القيامة.
copy short url   نسخ
30/05/2020
9126