+ A
A -
تعلّم خط الثلث والنسخ على يدي شقيقه الكبير الخطاط إسماعيل زهدي، ثم من درويش علي (ت. 1200هـ/‏ 1785م)، وهو غير درويش علي معلم الحافظ عثمان بن على (1051- 1109ه/‏ 1642-1698م)، وواحدًا من تلاميذ أحمد حفظي، تلميذ محمّد راسم (ت 1169هـ/‏ 1755م)، الذي أجازه وهو في الثانية عشرة من عمره، وقد برز بخاصة في خط الثلث الجلي، وفي الرسم. وانتسب إلى دائرة رئيس الكتاب راتب افندي، وبدأ يكتب خطوطًا لرجال الدولة وعلية القوم في اسطنبول، فاستطاع من خلال ذلك توطيد العلاقات مع أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة العثمانية، الذين عهدوا إليه بتعليم أبنائهم وإنجاز بعض الكتابات، ومن ثم سلك طريقه نحو القصر السلطاني، حيث قام رئيس الكُتاب راتب أفندي بتقديم إحدى اللوحات، التي رسمها إلى السلطان سليم الثالث، فأعجب برسوماته، وقام بتكريمه، ومنحه رتبة التدريس، ووظفه في دائرة الرسم الهمايونية، وأصبح رسامًا للسكة الهمايونية، ثم مأمورًا في دائرة تنظيم الطغراء، فتفنن في رسمها، كما عُين قاضيًا في إزمير، ثم قاضي عسكر الأناضول. وقد حظي راقم برعاية السلطان، حتى أنه نظم بيتًا من الشعر يمدحه فيه بعدما أهداه لوحة قد رسمها له.
وقام بتدريس الخط للسلطان محمود الثاني، قبل أن يرتقي عرش السلطنة وبعده، وقد أتقن السلطان على يدي أستاذه فنون الخط، وهذا هو السر في إطلاق لقب «سلطان الخطاطين» على مصطفى راقم، والذي كان يُتقن خط الثلث الجلي والنسخ، كما يُجيد خط التعليق، ولهذا يُعتبر من أعلام خطاطي زمانه. وإضافة إلى أنه كان مُتقنًا جميع أنواع الخطوط، فقد كان رسامًا ماهرًا، ولذلك وصل إلى مرتبة الشرف في هذه الفنون، وأصبح رئيس الخطاطين، كما كان ماهرًا في كتابة الطغراوات، وابتكار التركيب الحروفية. ومن أهم خطوطه الجميلة ما كتبه على أضرحة السلاطين بجوار جامع الفاتح في إستانبول، وخطوط الثلث الجلي التي كتبها على جامع «النصرتية» في منطقة الطوبخانة في اسطنبول، وجامع السلطان محمود الثاني، والمدخل الرئيس لقصر «طوب قابو سراي»، واللوحة التعريفية في جامع السلطان أيوب، والستارة الخضراء بالكتابات الذهبية، التي كانت معلقة بجوار باب التوبة في الروضة الشريفة بالمدينة المنورة، ثم نقلت لاحقًا إلى مكتبة حكمت عارف، والعديد من لوحات الأسبلة والنوافير والمنشآت العامة، وهو الذي كتب شاهد ضريح أخيه إسماعيل زهدي، والذي بقي مزارًا للحطاطين يتطلعون بإعجاب شديد إلى الكتابة التي عليه.
وتعد هذه الخطوط من الآثار الخالدة له، وتعتبر من أروع الكتابات العربية، ومثالًا يحتذي به اللاحقون، إذ عُرف بأنه مجدد الخط العربي، ومُختزل قواعده، فقد كان يتحكم بالحروف عند وجود عناصر مشابهة متكررة لإدخال شكل جمالي، وساعده على ذلك مهارته في الرسم، كما لم يتقيد بحجم الحروف، فكان يتحكم في تكبير وتصغير بعضها حتى تبدو بالشكل المرجو، فمثلا كلمة «رسول»، كان يضع حرف الواو داخل كاسة اللام، ولا يعبأ إذا بدا حرف الواو أصغر حجمًا من نظيره اللام، وعمل أيضًا على استغلال تتابع حرفي الألف واللام في كتاباته بأن يصنع بهما التواءات متناظرة؛ مما يعمل على تكوين شكل هندسي متناغم يغلب عليه التماثل والاتزان. وقد سار على نهجه الخطاط حامد الآمدي، ويعتبر أحسن من خلفه، ويذكر البعض أنه كتب مائة من المصاحف الشريفة بخطوط بديعة، وقد أصابه الشلل في أواخر أيامه، وتوفي في 15 شعبان 1241هـ/‏ 1826م، ودفن في ضريحه بحي الفاتح بمدينة اسطنبول. وقد كتب بنفسه شاهد قبره قبل وفاته بسنة، وكان نصه: «سابقًا صدر أناضولي، وخازن كلام الرباني، خطاط مصطفى راقم أفندي، روحيجون فاتحه».
وقد قام راقم بتجديد أسلوب التراكيب في اللوحات الفنية، والابتكار والتجديد في الخطوط، وحتى في توقيعه، ما جعله نقطة مفصلية في تاريخ فن الخط العثماني، حيث أصبح ينقسم تاريخيًا إلى مرحلتين، ما قبل راقم، وما بعده. وينظر المؤرخون الغربيون إلى راقم باعتباره أول رسام عثماني بالمعنى الحرفي، ويستند في ذلك إلى إمكانية ترويض الكلمات؛ لتُصبح على شكل معين، وأشهر تلك الأعمال عندما أنجز خط الآية الكريمة «وإنه بسم الله الرحمن الرحيم» على هيئة طائر مستخدمًا خط الثلث، وقد حاز احترام معاصريه.
ويُعتبر راقم من أعلام خطّاطي زمانه، وقد جاء بتجديد كبير في الثلث الجلي، ولا تزال طريقته متبعة حتى اليوم، فهو الشيخ الثالث بعد حمد الله الأماسي والحافظ عثمان، والشيخ الرابع إذا ما عُدّ درويش علي الشيخ الثاني، ولمّا كان أخوه الأكبر إسماعيل الزهدي يتّبع الطريقة القديمة في كتابة الثلث، فإنّه لم يجرؤ على الكشف عمّا جاء به من هذا التجديد توقيرًا لأخيه الأستاذ إلاّ بعد وفاته.هو الخطاط العثماني حافظ مصطفى راقم بن قبودان أحمد، ولد في أونية سنة 1171 هـ /1757م، ثم رحل إلى اسطنبول في حداثة عمره، وبدأ منذ نعومة أظفاره بدراسة فني الخط والرسم فيها؛ بالإضافة لعلوم الدين الإسلامي، حيث برزت مواهبة منذ الصغر فيهما، وهي الموهبة التي أثقلت مكانته في مضمار الخط، الذي برع به، وقد اتخذ في توقيعه لقب «راقم»، انطلاقًا من المعنى اللغوي، فالراقم هو من يُجيد الكتابة ويُحذقها، حيث قال الله سبحانه وتعالى في سورة المطففين «كتاب مرقوم»، وفي سورة الكهف «أصحاب الكهف والرقيم».
copy short url   نسخ
29/05/2020
2012