+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب أردني
من إحدى مكائد التاريخ العربي أن يبعث الأمة على هيئة أسلافها البائدين من طسم وجديس، وصولا إلى مواجهة الفناء البيولوجي.
ومما لا يفصح عنه التاريخ علانية في أحلك محطاته وزواياه المعتمة، أن يزين للنخب السياسية استسهال خوض مغامرات التسريع بالفناء، تحت حجج كانت تردد شبيهَاتها نخب طسم التي قادت دفة اليمامة إلى الهلاك ومن ثم الفناء. أقصد نكران خطر العدوان الخارجي على الفريقين في مملكتهما التي عاشت نحو ستة قرون منها خمسة بعد الميلاد.
مذذاك، انسل للعرب من أسلافهم العماليق وأقوام العرب البائدة من طسم وجديس وسواهم، فيروس الفرقة والتباغض حد الاقتتال وتسلط قويهم على ضعيفهم، فضلا عن ميزة تقديم الاحتراب الداخلي على درء الخطر الخارجي.
وفي خضم المأساة التي تدحرجت في نيرانها طسم وجديس، ما ينبئ بأن أمة العرب تستسيغ استعادة فصول الكارثة التي أخرجت أسلافهم البائدين من التاريخ عبر حقبة زمنية تماثل نظيرتها منذ سقوط غرناطة في 1492 للميلاد.
ما لا تقوله سيرة البائدة من العرب أن الكل القبلي العربي قدس الفرد الممثل في شخصية الزعيم، وهكذا انبنى النظام الاجتماعي بدءا من الأسرة فالعائلة الممتدة انتهاء بالقبيلة التي أصبحت دولة.
مذذاك، لم يغادر العرب في كلهم الانحياز المطلق لتقديس الفرد، بصفته تجسيدا للثقافة العمودية التي تمطت في أرجاء حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فصار الزعيم القبلي وأسرته هم الدولة التي اتخذت أشكالا متباينة في بنائها الهرمي، حافظ في مطلق أحواله على قدسية الفرد.
فطسم وجديس، اللتان أنهكهما الصراع والاقتتال والغزو الخارجي، حتى بادتا نهائيا، ورثتا خصائصهما للعرب، عبر تقديس الفرد المطلق السلطة، أي أن الاستبداد نتاج منطقي لسيرورة تاريخية لم تجتز الأمة كل غثيانها بعد.
كانت زرقاء اليمامة، في كل حذرها وتحذيراتها للسلطة وعموم الناس في اليمامة، تجسيدا لقوة الاستشراف التي تعبر عن روح الأمة، في تقدير الخطر المحدق بالبلاد.
لكن الأنواء التي مزقت اليمامة كان لا راد لها، بعد الإعراض الكلي عن الاستماع لنداءات وصرخات زرقاء اليمامة، إذ لم يأبه بها أحد، حتى بات المحتل واقفا على الأبواب. المعادل الموضوعي لدى عرب اليوم لأسطورة زرقاء اليمامة، هم اليوم كثر يستندون لقرءات عميقة لمجريات الأحداث التي لا يوليها القائمون على الأمر أي اهتمام. كأنما كانت الزرقاء تحمل ناقوسا عابرا للزمن لتلقي بقولها على اسماع من ليس لهم أي سمع.
على الدوام، كانت التحولات التي يشهدها العالم العربي تجري لتعميق هوة الأزمة التي حذرت منها زرقاء اليمامة، إذ يعيد النظام السياسى الاقتصادي العربي إنتاج ذاته لإبقاء نهج التبعية مسيطرا على مقاليد الأمور، ليتسنى له تأبيد سلطته التي تخنق أي محاولة أو مسعى للخروج عن المعتاد التاريخي المقدس. لا تزال الأنا المتضخمة الفردية تنشطر في الكل العربي، لتتغذى على ما يديمه الاستبداد والفساد من بيئة خصبة لمعاندة سنة الكون في السير إلى الأمام. ليس من قبيل اللطم أو جلد الذات أن يظل العربي يلعن «سنسفيل» أوضاعه القائمة، فهو إذ يعيش في مطلع الألفية الثالثة، يدرك تماما أنه لا ينتمي لعصره وهو يرى في أي بؤس يعيش، على مختلف المستويات؛ إذ بلاده محض سوق للمنتج الأجنبي، فيتساءل: هل سنبقى عالة على هامش العالم، نجتر كطفيل ما يلقيه لنا العالم المتقدم؟!
يطرب النظام العربي على حالة الانسداد التي أوجدها ليستمر في إنتاج شروطها التي لا يمكن الانقلاب عليها إلا بأن يأخذ الكل الشعبي العربي زمام أموره بيده في عملية تحول تاريخية تنسف البنى القهرية للاستبداد السلطوي المتخلف، وهو تحول قد يلبي بعضا من استغاثة زرقاء اليمامة التي أطلقت في الفضاء العربي قبل ستة عشر قرنا أو يزيد!
copy short url   نسخ
29/05/2020
607