+ A
A -
يُقال إن فيروس كورونا «لا يميز» بين الناس، لكن هذه المقولة ليست صائبة على وجه الدقة، إذ يُميز فيروس كورونا بناءً على السلوك، فإذا لامست شخصاً مُصاباً بالعدوى فمن المرجح أن يُصيبك المرض، وإذا لم تُلامسه فلن تُصاب على الأرجح، ولهذا السبب تحديداً نجد أن العلوم السلوكية ضرورية في معركتنا ضد جائحة فيروس الكورونا.
وتتجلى الآن أهمية علوم الطب الحيوي الصعبة مثل الفيروسات، والأوبئة، والمناعة، والصيدلة.
ولكن إذا لم نأخذ بعين الاعتبار علم سلوك الإنسان -الذي يدرس كيفية تصرف وتفكير البشر على أرض الواقع- فإن فهمنا لن يكتمل وستفشل محاولاتنا لهزيمة الفيروس.
وإقناع الناس بفعل شيء ما، أمرٌ بالغ الصعوبة، لذا تعتمد الحكومات حول العالم على علماء السلوك من أجل نشر نهجهم في التعامل مع الجائحة.
وهناك كثير من الأمور على المحك هنا، على حد تعبير عالمة النفس بجامعة ييل، مولي كروكيت، وزملائها في ورقةٍ بحثية نشروها مؤخراً، حول العلوم السلوكية في ظل تفشي فيروس كورونا: «من أجل إبطاء جائحة فيروس كورونا؛ يجب على الأصحاء أن يتخذوا خطوات أساسية لتغيير سلوكهم، وفعل ذلك يُمكن أن ينقذ حياة الآلاف وربما الملايين».
ولكن الخطأ قد يُؤدي إلى تداعيات كارثية.
ويمكن القول إن علماء السلوك كانوا يستعدون لتحدٍّ مثل «كوفيد - 19» طيلة عقدٍ كامل. ففي عام 2010، نجد أن الحكومة الائتلافية البريطانية المُنتخبة حديثاً شكَّلت «وحدة وكزة» تجريبية داخل مكتب مجلس الوزراء.
والفكرة الرئيسية هنا، التي روج لها الكاتبان ريتشارد ثالر وكاس سانستين في كتاب «الوكزة Nudge» عام 2008 بجامعة شيكاغو، هي أن البشر يتخذون قرارات سيئة وغير عقلانية عادةً، ولكن يُمكن تشجيعهم على اتخاذ القرارات الجيدة العقلانية عن طريق تغيير طريقة عرض الخيارات عليهم
وقال ديفيد هلبرن، رئيس الوحدة التي تُدعى رسمياً باسم «فريق الرؤى السلوكية BIT» وصارت شركةً مُستقلةً الآن، قبل الجائحة: «أعتقد أننا انتقلنا من مرحلة (هذه فكرةٌ مُثيرة للاهتمام ولن تنجح على الأرجح) إلى (نحن نعلم أنها فعالةٌ على أرض الواقع في عديد من المجالات)».
لذا فإن الفكرة التي بدأت في صورة تمرين على وكز الناس لحثهم على اتخاذ خيارات حياتية أفضل، توسعت لتصير فكرةً عالمية في الهندسة السلوكية.
وتنشط الآن شركة BIT في 30 دولة، منها كندا والهند.
وفي العام الماضي، جذب مؤتمر التبادل السلوكي في لندن أكثر من ألف مندوب من حول العالم ومن قطاعات المجتمع كافة، ومن ضمنها قطاع الصحة العامة.
تفاوت في انتشار
الفيروس بين دولة وأخرى
بمجرد أن اتضح أن فيروس كورونا المستجد سيتحول إلى جائحة، انضم علماء السلوك كافة من حول العالم إلى زملائهم في الطب الحيوي، الذين تخلوا عن مشاريعهم كافة؛ من أجل العثور على طرق لعرقلة الفيروس.
وكانت شركة BIT واحدةً من أولى الشركات التي فعلت ذلك.
إذ اختارت الشركة 2.600 بالغ في المملكة المتحدة لتُجري تجربةً عبر الإنترنت لاختبار مختلف الملصقات من حول العالم حول غسل اليدين.
وجرى اختبار المشاركين؛ لقياس مدى تذكُّرهم للرسالة وما إذا كانوا قد بدأوا في غسل أيديهم أكثر عقب رؤية الملصق بالفعل.
وأظهرت النتائج أن أكثر الملصقات فاعلية «كان تصميمها واضحاً وبسيطاً مع نصٍّ صغير للغاية وتركيز على العملية خطوة بخطوة».
وربما تتساءل عن أهمية التجربة المنضبطة المعيشة في الخروج باستنتاج، لكن العلوم السلوكية لا تُنتج دائماً إجابات واضحة.
واختبرت مولي وفريقها مثلاً تأثير مختلف أشكال الرسائل على رغبة الأشخاص في غسل أيديهم، وتجنب التجمعات، والعزل الذاتي، ومشاركة الرسائل الصحية. وتوقعوا أن الرسائل العملية النفعية ستكون الأكثر تأثيراً، لكنهم وجدوا أنها لا تجدي نفعاً تقريباً.
إذ إن الرسائل الأكثر فاعلية كانت الرسائل التي تحمل ثقلاً أخلاقياً، خاصةً تلك التي تُركز على مسؤولياتنا تجاه العائلة والأصدقاء وحتى الغرباء.
والفريق الآخر الذي تحرك سريعاً كان «وحدة الأبحاث السلوكية» في مركز Economic & Social Research Institute الأيرلندي.
فمع خروج أعداد حالات «كوفيد - 19» داخل إيطاليا عن السيطرة في مارس، حددت الوحدة أكثر من 100 ورقة بحثية وكتبت عنها مراجعةً أدبية «باستخدام العلوم السلوكية؛ للمساعدة في مكافحة فيروس كورونا».
وقال رئيس الفريق بيتي لون: «هناك مجموعةٌ من المعارف العلمية المُطبقة التي يُمكن الاستعانة بها. فنحن نعلم أن بإمكاننا اتخاذ عديد من التدابير التي يُمكن أن تُقلل انتقال المرض».
وتُركز بعض تلك التدابير على السلوك الفردي، مثل غسل اليدين ولمس الوجوه، في حين تُشجع التدابير الأخرى الأفراد على اتخاذ قرارات تُفيد المجتمع ككل.
ووجد الفريق 7 مجالات يمكن أن تُسهم فيها العلوم السلوكية:
نظافة اليدين.
لمس الوجه.
التكيف مع العزلة.
تشجيع العمل الجماعي.
تجنب السلوكيات المعادية للمجتمع.
التواصل في أثناء الأزمة، وإدراك المخاطر.
الضرب على الوتر الحساس.
وقال لون إن الخدعة هنا تكمُن في إنتاج هوية مُشتركة للمجموعة. وهذا يعني «إقناعهم بأننا نخوض المعركة معاً، وإبلاغ الجميع بالاستراتيجية التي تقول: إذا فعلنا كذا وكذا، فسيصير حالنا أفضل جميعاً، وإليكم السبب. فضلاً عن إدخال درجات تدريجية من العقوبات والرفض الاجتماعي؛ من أجل ردع الأشخاص الخارجين عن المجموعة». ويُمكن البدء بالتعبير عن الامتعاض حين ينتهك الناس قواعد التباعد الاجتماعي، أو تحدي الأشخاص الذين يكسرون القوانين. كما تُؤثر المشاعر على قراراتنا وسلوكياتنا المتعلقة بالفيروس.
ففي تجربةٍ أكثر حداثة عرَض فريق لون عدداً من الملصقات على الناس، ومن بينها ملصق يُركز على احتمالية نقل العدوى إلى شخص معرَّض للخطر أكثر من غيره - مثل جدة أحد الأشخاص- أو ملصق مُحايد ينقل نصائح الحكومة.
وحين سُئلوا عن خططهم للأيام المقبلة، قال الأشخاص الذين شاهدوا الملصقات المفعمة بالمشاعر، إنهم سيُمارسون التباعد الاجتماعي على الأرجح، رغم أن المشاركين أنفسهم توقعوا أن تكون الملصقات المحايدة أكثر فاعلية.
وفرضت الحكومة الأيرلندية تشديداً تدريجياً على الحريات الاجتماعية، لتصل إلى مرحلة الإغلاق في الـ28 من مارس 2020.
ووفقاً للون، لاقت تلك الإجراءات امتثالاً وثقةً كبيرة: «الناس يستجيبون. وأعتقد أن النظرة العامة هنا حالياً هي أن رئيس الخدمات الطبية أدى دوره على أكمل وجه».
ويبدو أن السياسات المفروضة تعمل بشكلٍ فعال في الوقت الحالي. وفي حين كشفت تجربة أيرلندا عن فائدة العلوم السلوكية، نجد أن الأحداث على الجانب الآخر من البحر الأيرلندي تكشف عن الكيفية التي يُمكن أن تزيد بها الأمور سوءاً.
فبالمقارنة مع جيرانها الأوروبيين، نجد أن المملكة المتحدة تبنَّت نهجاً أكثر مرونة فيما يتعلق بالقيود السلوكية.
إذ إن رئيس الوزراء بوريس جونسون، الذي كان سعيداً عندما صافح المرضى في الثالث من مارس، ثم أُصيب بالفيروس، كان بكل بساطة يتبع النصائح الرسمية، التي نصت على أن غسل اليدين هو المسؤول الأول عن وقف انتقال المرض، وليس التباعد الاجتماعي.
ثم فرضت الحكومة البريطانية حالة الإغلاق على البلاد في الـ23 من مارس.
ولم يتضح بعدُ ما هو التوجيه الذي ألهم السياسة الأصلية وتغييرها المُفاجئ، على الأقل لأن الحكومة كانت متكتمةً للغاية حيال النصائح التي كانت تحصل عليها.
وفي الـ 16 من مارس -قبل أسبوعٍ من فرض حالة الإغلاق- تسلمت الحكومة خطاباً مفتوحاً مُوقعاً من نحو 700 عالم سلوكي مُقيم في بريطانيا؛ للتعبير عن قلقهم البالغ حيال سياسات التباعد الاجتماعي خاصتها.
وكانت أولريك واحدةً من الكُتاب الأساسيين للرسالة، وقالت إن المشكلة الأساسية تكمُن في أن الحكومة ركزت أكثر من اللازم على «الإرهاق السلوكي»، أي القلق من أن الناس سوف يملّون بسرعة من التدابير التي تحُدُّ من التواصل الاجتماعي، قبل أن يتخلوا عنها وهُم في أمسّ الحاجة لها، إذ قالت: «لطالما اعتقدنا أن هذه الحجة مُبالَغ فيها، لأن أدلتها ليست قوية».
كما يبدو أن النصيحة ركزت أكثر من اللازم، على نهج تغييرٍ سلوكي ضيق مبنيّ على الوكزة، بينما تجاهلت وجهات نظر العلوم السلوكية الأخرى مثل علم النفس والاقتصاد السلوكي، بحسب أولريك.
ولاحظ عديد من الناس بصمات BIT على تلك الاستراتيجية، رغم أن الشركة لم تُعلق على الأمر ورفضت طلب إجراء مقابلة.
ومصدر القلق الآخر هو أن استجابة المملكة المتحدة كانت مدفوعةً سياسياً. وكان جوهر الخوف يكمُن في أن الحكومة فضَّلت النصيحة التي تتوافق مع غرائزها التحررية، أو «الحق الثابت القديم لأبناء المملكة المتحدة الأحرار في الذهاب إلى الحانة»، على حد تعبير جونسون إبان إعلان حالة الإغلاق في الـ20 من مارس.
وهذا يتناقض بشكلٍ صارخ مع الخبرات السلوكية التي طُبقت داخل المملكة المتحدة، إبان استعداداتها لمواجهة إنفلونزا الخنازير قبل عقدٍ كامل، بحسب أولريك.
لكن إخفاقات المملكة المتحدة لا تنفي حقيقة أن العلوم السلوكية يُمكنها المساعدة في هذه الأزمة. إذ أوضحت أولريك: «ما يزال أمام العلوم السلوكية الكثير لتُقدمه».
ونجد في الوقت الحالي أن السؤال الأكثر إلحاحاً يدور حول كيفية الحفاظ على حالة الإغلاق ورفعها بنهاية المطاف.
ويمكن أن تُوفر العلوم السلوكية نصائح شخصية حول كيفية ممارسة اللعبة الطويلة. ولكن هناك أيضاً بعض الرؤى الخاصة بالحكومة.
فالنهج التدريجي أفضل كثيراً، لأن الناس يكافحون أكثر من أجل التكيف مع الوضع الجديد كلما زادت شدة الصدمة. «يستغرق الدعم الاجتماعي وقتاً لتنظيم نفسه، إذ يعجز الناس عن التأقلم حين تحدث الأمور فجأة»، حسب لون.
وينطبق المنطق نفسه على عملية إنهاء حالة الإغلاق، إذ قال: «سيكون من الأفضل أن يحدث ذلك على عدة مراحل تدريجية، حيث تُرفع قيودٌ بعينها واحد تلو الآخر».
ولم تتحدد الطريقة المُثلى لفعل ذلك حتى الآن، لأن هذه المشكلة جديدة.
دليل العلوم السلوكية
لاجتياز فترة الإغلاق
ليس من السهل التعامل مع حالة الإغلاق، إذ قال بيتي لون: «أشعر بالحيرة. لقد انقلب عالمي رأساً على عقب». لكنه يرى أن هناك بعض الأشياء التي يمكنك فعلها لمساعدتك في اجتياز هذه الفترة.
العادات
«واحدةٌ من الأمور المثيرة للاهتمام في مثل هذه الأوقات هي أن الناس يبدأون في كسر عاداتهم وفعل أشياء مختلفة. وهذه فرصةٌ لتجربة شيءٍ جديد، وتكوين عادات جيدة جديدة. جرِّب ذلك الأمر الذي لم تسبق لك تجربته من قبلُ، لأنك كنت تكتفي بالحفاظ على سلوكياتك الدائمة».
التواصل
«يعاني كثيرون في الوقت الراهن. أخذنا عينات من رفاهية الناس طول اليوم، ويبدو كأن الشعب بأكمله بات عاطلاً في وقتٍ واحد. وأحد أسباب ذلك هو شعور الناس بالعزلة. إنهم يشعرون بالوحدة، ويشعرون كأن اتصالاتهم الاجتماعية لم تعُد مثيرة. لذا تواصَل مع الأصدقاء القدامى، وتأكَّد من أنك تتواصل مع الآباء والعائلة بشكلٍ مُنتظم. هذا أمرٌ بالغ الأهمية».
الأنشطة في الهواء الطلق
«نرى في بياناتنا أن الأمر الذي يمنح الناس أعلى إحساس بالرفاهية هو أي شيء يفعلونه خارج المنزل. يشعر الناس بسعادةٍ أكبر في الهواء الطلق. لذا اعثر على طريقةٍ آمنة للخروج. والتمرين على ذلك مرةً واحدة في اليوم أمرٌ ضروري؛ حتى تشعر بأن كل شيء على ما يُرام من جديد».
copy short url   نسخ
29/05/2020
1484