+ A
A -
في بداية القرن العشرين، أصبحت سان فرانسيسكو أول مدينة أميركية تتأثر بالطاعون الأسود، بعد أكثر من 500 عام من اجتياحه لأوروبا لأول مرة في أربعينيات القرن الرابع عشر، فكان هذا أول تفشٍّ للطاعون يصيب الولايات المتحدة الأميركية.
لم يسجل وباء سان فرانسيسكو - بأي حال من الأحوال- عدد القتلى الذي سجله نظيره في أوروبا، التي شهدت مقتل أكثر من 60 % من سكان القارة، لكنه كشف عن سلسلة من الأنماط المقلقة في سلوك الحكومة الأميركية، وفق ما ذكره موقع all that''s interesting الأميركي.
إذ يُعتقد على نطاق واسع أن مزيجاً ساماً من الفساد والعنصرية ومقاومة التقدم العلمي جعل وباء سان فرانسيسكو أكثر فتكاً مما كان ينبغي أن يكون.
فبعد أن أودى الطاعون الأسود بحياة 200 مليون شخص في أوروبا في القرن الرابع عشر، ظهرت عدة تفشيات للمرض في منطقة يونان جنوب غرب الصين في أواخر القرن الثامن عشر.
ثم ضربت جائحة طاعون ثالثة وسط وشرق آسيا في عام 1855، مما أسفر عن مقتل أكثر من 15 مليون شخص.
وبحلول عام 1894، وصل الطاعون إلى هونغ كونغ، وهي ميناء بحري كبير ومزدحم، يرسل السفن التجارية إلى الولايات المتحدة. ثم بعد خمس سنوات، وصل المرض إلى أراضي الولايات المتحدة: هونولولو، وهاواي.
كان المهاجرون إلى الحي الصيني في هونولولو أول مَن توفي بسبب الوباء. وقد قرر الأطباء أن بكتيريا اليرسينيا الطاعونية كانت سبب مرضهم، ولكن لم يكن لديهم أي فكرة عن كيفية وصولها إلى شعب الجزيرة.
ونشر الأطباء الاعتقاد بأن المرض ربما أثَّر فقط على المنحدرين من أصل آسيوي، وهو ادعاء لا أساس له استلهموه على الأرجح من التوجه المعادي للصينيين في ذلك الوقت. لسوء الحظ، ستنعكس هذه المواقف في سان فرانسيسكو بعد بضعة أشهر فقط.
أغلق المسؤولون الحيَّ الصيني في هونولولو، مما أدى إلى عزل 10 آلاف من السكان في دائرة نصف قطرها ثمانية أحياء يديرها حراس مسلحون.
وعندما أُصيب مراهق أبيض خارج الحي المعزول بالمرض وتوفي، تبنَّى مسؤولو مجلس الصحة إجراءً أكثر تطرفاً، حيث حرقوا أي مبنى توفيت فيه ضحية للمرض. ولسوء الحظ، كان العديد من هذه المباني يضم سكاناً صينيين ويابانيين وسكان هاواي الأصليين.
استمر المسؤولون في إشعال حرائق مسيطر عليها في محاولة لطرد الطاعون، ولكن في يناير من عام 1900، أشعلت شرارة شاردة حريقاً امتد لـ18 يوماً واجتاح خُمس هونولولو والحي الصيني بأكمله.
على إثر ذلك، نزح أكثر من 5 آلاف من السكان وأُجبروا على دخول مخيمات اللاجئين التي فُرض عليها الحجر الصحي. ولا يزال الحريق أسوأ كارثة مدنية في تاريخ هاواي، لكنه ساعد على الحد من انتشار الطاعون في جميع أنحاء هاواي.
تفشِّي الطاعون
في سان فرانسيسكو
كان أول شخص يتوفى بسبب الطاعون الدبلي في الولايات المتحدة القارية صاحب ساحة أخشاب ومهاجراً صينياً يدعى وونغ شوت كينغ، الذي عاش في منطقة الحي الصيني في سان فرانسيسكو. وقد وقع ذلك بعد مرور أشهر فحسب من اجتياح حرائق مكافحة الطاعون هونولولو في 6 مارس 1900.
انتابت كينغ حُمى شديدة، وأُصيب بالهذيان وتورم العقد الليمفاوية بشكل مؤلم يدعى الدبل، ومنه جاء اسم المرض. كان الدكتور جوزيف ج. كينيون، كبير موظفي الحجر الصحي في خدمة المستشفى البحري الفيدرالي الذي أُسس فيما بعد المعاهد الوطنية للصحة، هو أول من حدد وجود اليرسينيا الطاعونية داخل جسم الضحايا.
كان كينيون يتابع البكتيريا وهي تنتشر من آسيا إلى هونولولو وتنبأ بأنها ستصل إلى سان فرانسيسكو أيضاً.
وفي يناير 1900، طلب كينيون من جميع السفن القادمة من والذاهبة إلى الصين وهاواي رفع الأعلام الصفراء للتحذير من عدوى الطاعون المحتملة، ولكن قوبل ذلك بالتجاهل إلى حد كبير.
أُحبطت جهود كينيون اللاحقة لإقناع المدينة بوصول المرض من قِبَل أطراف متعددة ذات مصلحة خاصة، حتى إن إحدى صحف سان فرانسيسكو نشرت مقالاً بعنوان: «لماذا تعد سان فرانسيسكو مضادة للطاعون؟».
وبين عامَي 1900 و1904، مات أكثر من 100 شخص بسبب طاعون سان فرانسيسكو، ويرجع ذلك جزئياً إلى رفض قادة المدينة الاعتراف بوجوده.
طاعونٌ من الفساد الحكومي
خشي سياسيو المدينة والولاية أن تضر أنباء الطاعون الاقتصاد المحلي؛ لذلك تآمروا على وصف ادعاءات كينيون بالزائفة.
أوضحت مارلين تشيس، المحاضرة في كلية الصحافة بجامعة كاليفورنيا، قائلةً: «كان هناك تهديدٌ حقيقيّ بضياع صناعة المنتجات الطازجة في كاليفورنيا، والبالغة قيمتها نحو 40 مليون دولارٍ».
ووفقاً للصحفي ديفيد كي راندال، فقد وصفت الصحف المحلية كينيون بأنه «مُلفّقٌ» و«مريبٌ» ولمَّحت إلى أنه «كان يُحاول فقط الحصول على المال من الخزائن العامة، وأن تلك كانت محاولة احتيالٍ كبيرةٍ ليس أكثر».
أشارت كذلك الصحف المملوكة لرجال أعمالٍ ذوي مصالح إلى أن كينيون قد حقن أجساد بعض الموتى بالطاعون بنفسه.
كان يُسمونه «كينيون المُريب» وكانوا يزعمون أن الوباء الحقيقي في سان فرانسيسكو هو «طاعون السياسة».
وقع حاكم كاليفورنيا هنري غيج على العديد من أوامر التكميم لمنع وسائل الإعلام من مناقشة طاعون سان فرانسيسكو الوشيك. وفي عام 1901 طبع مجلس الدولة للصحة تقريراً يُنكر فيه وجود المرض.
دوافع عنصرية
ودعوى قضائية
وبجانب تشويه سمعة كينيون، كانت إحدى أخبث الطرق التي استخدمها السياسيون لإنكار وجود طاعون سان فرانسيسكو هي إقناع السكان البيض بأن الوباء يُصيب فقط ذوي الأصول الآسيوية.
إذ كان بحلول عام 1880م 16 % من سكان سان فرانسيسكو من أصولٍ صينيةٍ، حيث وصل المهاجرون إلى الولاية باحثين عن عملٍ في بناء السكة الحديدية العابرة للقارات، لكن أعدادهم المتزايدة حركت مشاعر كرهٍ وخوفٍ لدى البيض من سكان الولاية، ما نتج عنه إصدار قانون الإقصاء الصيني عام 1882، وهي سياسةٌ أميركيةٌ قضت على الهجرة الصينية.
ومع أن طاعون سان فرانسيسكو تسبب في مصرع الكثير من البيض أيضاً، فإن ذلك لم يكن كافياً لإقناع الرأي العام بأن المرض لا يُصيب السكان على أساس عرقهم. يوضح راندال قائلاً: «كانت الفكرة أنه إن كان أجدادك قد نجوا من الطاعون في أوروبا، فإنك قد طورت مناعةً ضده بشكلٍ ما».
بالتالي، عندما ظهر طاعون سان فرانسيسكو في الحي الصيني، كان أول رد فعلٍ لحكومة الولاية هو حظر انتقال كل المهاجرين الآسيويين من وإلى كاليفورنيا، وإغلاق الحي الصيني لثلاثة أيامٍ، قاطعين الطريق بين 20 ألف مواطنٍ وبين وظائفهم وإمداداتهم الغذائية.
لكن في الوقت الذي ظل فيه السكان اليابانيون والصينيون محبوسين في الحي الصيني، ظل الأميركيون من أصولٍ أوروبيةٍ قادرين على الدخول إلى المنطقة والخروج منها كيفما شاؤوا.
موَّل مسؤولو المدينة والولاية «حملة تعقيمٍ شاملةٍ للحي الصيني» تضمنت نثر المساحيق المطهرة وشن غاراتٍ على الحي بحثاً عن أية حالات طاعونٍ جديدةٍ وحرق أية ممتلكاتٍ شهدت احتكاكاً بالمرض. وزعم عمدة سان فرانسيسكو جيمس دي فيلان أن الأميركيين الصينيين كانوا «غير نظيفين» ويُمثلون «تهديداً دائماً على الصحة العامة».
حتى أن إحدى صحف سان فرانسيسكو وصفت الطاعون بأنه «عنصريّ بامتيازٍ»، كما كتبت صحيفة Organized Labor بصراحةٍ.
في نهاية المطاف حاول المسؤولون منح المواطنين الصينيين لقاحاً تجريبياً، لكن الكثيرين منهم ظنوا أنها محاولةٌ لتسميمهم.
واستجابةً لتلك الإجراءات، رفعت الجمعية الصينية الخيرية الموحدة، المعروفة كذلك باسم الشركات الست، دعوى قضائيةً ضد كينيون ومجلس سان فرانسيسكو للصحة، وانتهت القضية بفوز الصينيين.
العودة والثبات
بحلول عام 1901 استُبدل كينيون بعاملٍ آخر في القطاع الطبي اسمه روبرت بلو كان ملتزماً بلفت الانتباه إلى طاعون سان فرانسيسكو بقدر ما كان كينيون. بانياً على الدراسات الأوروبية المبكرة حول الارتباط بين موت الفئران وبين انتشار المرض، حول بلو تركيزه إلى إبادة القوارض لمكافحة الطاعون.
أطلق بلو عام 1903 جهود بحثٍ وإبادةٍ عبر المدينة تستهدف جرذانها. كانت تلك الحادثة الأولى في التاريخ الأميركي لتعاونٍ فيدرالي «هادفٍ إلى قتل الجرذان كوسيلةٍ لمجابهة أزمةٍ ما». استمر البرنامج لست سنواتٍ وكلف نحو مليوني دولارٍ.
ظل بلو يواجه مقاومةً من السياسيين والسكان المنكرين لوجود الطاعون، لكن جهوده ساعدت في إبطاء انتشار الطاعون. وقد سُجلت 100 حالة وفاةٍ بحلول بداية عام 1905، نجاحٌ كبيرٌ بالمقارنة مع الملايين الذين ماتوا عبر قارة آسيا خلال جائحة الطاعون الثالثة.
وبحلول عام 1907 ضربت موجةٌ أخرى من طاعون سان فرانسيسكو، ولم تكن متركزةً في الحي الصيني هذه المرة، مات خلالها 65 شخصاً.
وفي السنة التالية سُجلت 160 حالةً أخرى، من بينها 78 حالة وفاةٍ، وكان جميع المصابين من أصولٍ أوروبيةٍ. وفي نوفمبر 1908 أعلنت سان فرانسيسكو خلو أراضيها من الطاعون.
ليس الطاعون الدبلي مرضاً من الماضي للأسف؛ إذ تُسجل سنوياً نحو سبع حالات في الولايات المتحدة الأميركية، والمئات حول العالم. ولحسن الحظ يُمكن اليوم علاج مرضى الطاعون بسهولةٍ باستخدام المضادات الحيوية.
copy short url   نسخ
28/05/2020
1822