+ A
A -
بقلم : نزار عابدين كاتب واعلامي سوري
يحيلنا العنوان إلى شطر بيت مشهور«أنا الغريق فما خوفي من البلل» ولعل كثيرين لا يعرفون أنه الشطر الثاني من بيت للمتنبي من قصيدة له في مدح سيف الدولة الحمداني، وهي قصيدة طويلة نسبياً بلغت 48 بيتاً وجعل لها مقدمة غزلية طويلة منها هذا البيت:
والهَجْـرُ أقـتـلُ لي مـمّا أُراقِـبُـهُ أنا الغريقُ فما خوفي من البَلـَلِ
وذات يوم من أوائل القرن العشرين قال حافظ إبراهيم:
إذا تصَفـَّـحتَ ديواني لتـقـرأني وجدتَ شعرَ المراثي نصفَ ديواني
وهذا ما جعل أمير الشعراء أحمد شوقي يقول في مطلع قصيدته في رثاء حافظ:
قـد كنتُ أُوثِرُ أَن تقـولَ رثائي يـا مُـنْصِـفَ المَـوْتى من الأَحيـاءِ
كان هذا عند وفاة حافظ في 21/6/1932، ولم يتأخر شوقي عنه إلا شهوراً قليلة، فقد مات في 14/10/1932 وأخشى أن أصير «بكــّـاء» الأصدقاء، فما مسحنا دموعنا من البكاء على رياض عصمت، حتى فجعتنا الأخبار بوفاة صديق آخر هو الدكتور أكرم اليوسف. وإذا كنت قد قلت فيما كتبت عن رياض «وكل الحزن لدى الغرباء مذلة» فإنني أكتشف الآن أنني إنما كنت أحكي عن حزني، لأعاتب نفسي بالشطر الذي استعرته من المتنبي وحوّرته: أبعـد أحزان الغربة كلِـهـا تخـاف الأحـزان؟ يـا إلهي! ماذا فعـلت بنا الغربة وتفعل!
ثم زادت أحزاني على الصديق الراحل، وعادت الغربة تفعل فعلها، لقد توفي في المغرب وليس معه إلا زوجته، ودفن هناك، وليس حوله أحد من الإخوة والأقارب والأصدقاء، ولعله لو نقل إلى دمشق لم يجد جنازة لائقة به، بسبب ظروف العزل الصحي، حتى أخته وزوجها هنا في الدوحة لا يستطيعان المشاركة في الجنازة، وبناته الأربع اثنتان في ألمانيا وواحدة في دمشق وأخرى في إندونيسيا. آه أيتها الغربة، ظلت أمي تبكي حتى آخر لحظات حياتها لأن أولادها في الغربة (في سورية أو خارجها) وكانت على حق في حزنها. قالت لي أخته: «منذ كنا صغاراً كنا نتعامل مع أكرم على أنه أخونا الأكبر، أدخل الكتاب إلى حياتنا، وعرّفنا على أصدقائه المثقفين، وفتح عيوننا وعقولنا على عوالم الثقافة، كان مرشدنا إلى هذا العالم الجميل، عالم الفن والفكر والثقافة» وهذا هو واجب المثقف الحقيقي في التأثير في من حوله قبل أن يحاول التأثير في المجتمع.
يمكن أن يقال الكثير عن الراحل الدكتور أكرم اليوسف، وسيقال، لكنني أبحث عن الصفة الأبرز، لقد كانت الصفة الأبرز في رياض عصمت عشقه الثقافة، أما الدكتور أكرم فإن الصفة الأبرز فيه هي التواضع وعشقه المسرح. لعل كثيرين لم يعرفوا أنه كان يحمل الدكتوراة، وهي ليست درجة شرفية أو وظيفية، بل درجة أكاديمية لا تمنح إلا لمن يستحق وبعد جهد، ولم يحاول الراحل يوماً أن «يتبروظ» بالشهادة، وأقل من هؤلاء بكثير من يعرفون أنه كان عضواً في اختيار الفائزين بجائزة إيمي Emmy Award وهي جائزة أميركية تمنح للمسلسلات والبرامج التلفزيونية المختلفة، أنشئت عام 1949، وهي المقابل لجائزة الأوسكار التي تقتصر على الإنتاج السينمائي، بينما تختص «الإيمي» في قطاع الإنتاج التلفزيوني. تنظم الجائزة الأكاديمية الدولية للفنون والعلوم التليفزيونية، وأتحدى من يقول إنه سمعه يوماً يقول إنه عضو في هذه المنظمة، والدليل الآخر على تواضعه أنه لم «يتكبر» على أي عمل أنيط به وأسند إليه، كان المهم عنده العمل والعطاء، بغض النظر عن المركز والمسمى والوظيفة.
ولد الراحل في دمشق عام 1960، وهو خريج قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية قسم النقد والدراسات، دبلوم الدراسات العليا المعمقة، الأدب والفنون الحديثة 2007 دكتوراه في الآداب – شعبة اللغة العربية وآدابها – الأدب الحديث
ومن أستاذ المسرح الحديث في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق 1993-1995 إلى
أستاذ التربية المسرحية – وزارة التربية والتعليم دولة قطر 1996- 2005 إلى المشرف على مسرح الشباب – الهيئة العامة للشباب والرياضة دولة قطر 2005- 2007 إلى محرر في قناة الجزيرة للأطفال الدوحة قطر 2006 – 2007 إلى كاتب ومحرر في مكتب قناة الجزيرة للأطفال في الرباط – المملكة المغربية 2007- 2008 إلى مستشار في الهيئة العامة السورية للكتاب، ومدير تحرير مجلة «الحياة المسرحية»، وزارة الثقافة السورية 2009-2010 إلى مدير الملتقى الدولي للفنون وحوار الثقافات بالرباط المملكة المغربية 2013 – 2014 إلى رئيس ملتقى مراكش الدولي للفنون التشكيلية – 2015، كما ترك عدداً من المؤلفات الفكرية والفنية، منها:
كتاب سيمياء الفضاء المسرحي –دمشق 1996، كتاب «من النص الاجتماعي إلى الاقتصاد الدرامي» دمشق2010، كتاب «الماكياج السينمائي والتلفزيوني والمسرحي» – 2011 دمشق، كتاب«دراماتورجيا الفرجة»، الهيئة العربية للمسرح، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، 2012 كما كان عضو لجنة كتابة تاريخ المسرح القطري – وزارة الثقافة- قطر- 2005 وعضو لجان تحكيم العديد من مهرجانات المسرح الدولية في عدد من دول العالم.عضو اللجان العلمية لطلبة الماجستير والدكتوراه في عدة جامعات عربية.وعمل سكرتير تحرير القسم الثقافي بجريدة الشرق القطرية – دولة قطر 2003-2007.
لم أعرف الراحل الصديق الدكتور أكرم اليوسف في سورية، فقد أكلتني الغربة قبله بسنين، لكننا التقينا كثيراً هنا في الدوحة، وكان أول ما يلفت انتباهي حبه العمل، وباقتراح منه ولدت فكرة جمعية إبداع المغرب والحضارات ليتم بعد ذلك تنظيم الملتقى الدولي لحوار الحضارات في سبتمبر 2003بمشاركة وحضور أكثر من 122 فناناً وفنانة من مختلف دول العالم، وقال في هذا الملتقى إنه سعيد بهذا التنوع الثقافي في المغرب، لاسيما بين العرب والأمازيغ، وإنه التقى طلاباً جامعيين من جامعات أميركية ويجري التحضير لعمل مسرحي يجمع ثقافة شعوب أميركا الأصلية (الهنود الحمر) وثقافة الأمازيغ وثقافة شعوب أميركا اللاتينية.
هنا في الدوحة كان معجباً بتنوع التجارب المسرحية، وكان يعجبه جداً أن المسرحيين الخليجيين بعامة والقطريين بخاصة، يقدمون التراث في تجاربهم المسرحية، سواء كان التراث الخايجي أم التراث العربي الإسلامي، ولكنهم لا ينسون المسرح الحديث وأساليبه وتقنياته
عندما أبلغني زوج أخته بأن الراحل توفي في المغرب ومعه زوجته، وبأنهم لا يستطيعون الاجتماع في دمشق، علق بالقول: شتات ما بعده شتات، وأقول: الله يستر من الأعظم.
copy short url   نسخ
28/05/2020
2590