+ A
A -
قال مخلوف، الذي ظَهَرَ جالساً في بثٍّ حيّ على منصة فيسبوك، الأحد الماضي 3 مايو: «هل توقَّع أحدٌ أن أجهزة الأمن سوف تلاحق شركات رامي مخلوف، الذي كان أكبر داعمي هذه الأجهزة؟». وأضاف: «طُلِبَ مني أن أتنحَّى جانباً»، ملتمساً «الإنصاف» من الرئيس الأسد.
تغييرات كبيرة داخل العائلة الحاكمة
وتشير النداءات غير المعتادة التي أطلقها مخلوف، الذي اعتُقِدَ سابقاً أنه لا يمكن المساس به بسبب صلاته العائلية، إلى التغييرات العميقة التي يجريها الأسد في هيكل سلطة العائلة، التي تنتمي إلى الأقلية العلوية، وهي الطائفة التي هيمنت على سوريا منذ أن اعتلى حافظ الأسد السلطة في العام 1970.
تقول لينا الخطيب، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد تشاتام هاوس، إنه رغم محاولة الانقلاب التي نظَّمها أخو حافظ الأسد في العام 1984، «لم تنشر العائلة الحاكمة في سوريا غسيلها القذر على الملأ بهذه الطريقة من قبل». وأضافت أن لجوء مخلوف إلى منصة فيسبوك يُظهِر أن «خطوط الاتصال المباشرة بينه وبين بشَّار الأسد لابد أنها قُطِعَت تماماً».
وتأتي الهجمات على الهيمنة المالية لمخلوف، الذي تُعد شركة سيريتل، شبكة المحمول الأكبر في سوريا، أضخم مشاريعه، بينما يصارع الأسد من أجل توطيد سلطته على الدولة التي اجتاحتها الحرب واقتصادها المُتداعي. ورغم أن التدخُّل العسكري الروسي والإيراني قد ساعد الأسد في استعادة السيطرة على 70 % من الأراضي السورية، يسيطر المعارضون على جيبٍ في الشمال الغربي، ويعاني الجنوب الواقع تحت سيطرة الحكومة من الفوضى، ويعيش أكثر من 80 % من السوريين في فقر.
هل يستطيع مخلوف تحدي الأسد؟
ومع أنه من غير المُرجَّح أن يتحدَّى مخلوف الأسد جدَّياً، فقد كشف النقاب عن «توتُّراتٍ داخل الدائرة الأعلى في وقتٍ تتقلَّص فيه الكعكة وتزداد فيه المنافسات والاتهامات حِدَّة»، حسبما قال إيميل حُكيِّم، مُحلِّل شؤون الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، الذي أضاف: «مخلوف ليس مستشاراً أو ضابطاً، إنه ليس أقل من بشَّار إلا بدرجةٍ واحدة».
وقَّع الاتحاد الأوروبي عقوباتٍ على مخلوف، الذي اتَّهمته واشنطن باستخدام صلاته العائلية لمراكمة ثروة طائلة بالفساد، بزعم تمويله للجهود الحربية للنظام خلال الصراع المستمر منذ ما يقرب من عقد من الزمان. في حين أطلق عليه الاتحاد الأوروبي «الراعي الأكبر» لأجهزة الأمن السورية.
لكن كانت هناك بالفعل إشارات العام الماضي بأن قطب الأعمال، مخلوف، قد سَقَطَ بالفعل من دائرة الأسد المُقرَّبة. وفي ديسمبر، جمَّدَ وزير المالية السوري أصوله وأصول شركة نفط خارجية مُسجَّلة في لبنان، مُوقَّعة عليها عقوبات أمريكية، بسبب رسومٍ جمركية غير مدفوعة. وأنكَرَ مخلوف لاحقاً أيَّ صلاتٍ تربطه بالشركة.
ثم في أبريل، داهمت السلطات المصرية سفينة شحن تحمل مخدرات محشوَّة في عبوات حليب «ميلك مان» من سوريا- وهي علامة تجارية يملكها مخلوف. وفي منشورٍ على فيسبوك، أنكر مخلوف صلته بهذه الشركة أيضاً.
لكن الخطوة التي حفَّزَت مخلوف على الظهور على فيسبوك جاءت من وزير الاتصالات، الذي طالَبَ شركة سيريتل، الشهر الماضي أبريل، ومنافستها الأدنى شأناً إم تي إن، بدفع 180 مليون دولار في الإجمالي كرسومٍ للرُخَص المُعاد تقييمها. ودافَعَت الوزارة عن القرار في بيانٍ بعد أن زَعَمَ مخلوف أن المبلغ المُطالَب به لا مُبرِّر له.
ومع غموض سياسات دمشق، لا يستطيع المُحلِّلون تحديد السبب الذي من أجله يُسدَّد كلُّ هذا الهجوم على مخلوف. غير أن الدولة السورية تعاني من ضائقةٍ مالية، وتنخفض قيمة عملتها المحلية، ويشتكي الكثير من رجال الأعمال من الجمارك، بينما تلاحقهم السلطات بسبب الضرائب المتأخِّرة والرسوم الأخرى.
في تلك الأثناء، تُجَرُّ موسكو، وهي الداعم العسكري الرئيسي للأسد، إلى مشاركةٍ طويلة الأمد في سوريا، التي يسودها ما أطلَقَ عليه دبلوماسيٌّ روسي سابق «فسادٌ متفشٍ».
نزاع داخل الطائفة العلوية؟
لكن ربما تعود جذور النزاع في عائلة الأسد إلى ما هو أعمق من ذلك، إذ أفاد مصدران على اطلاعٍ بما يحدث داخل الدائرة الأقرب للأسد أن التوتُّر بين مخلوف و»السيدة الأولى» أسماء الأسد دام لسنوات. وتترأس أسماء الأسد أكبر منظمتيّ إغاثة في سوريا، وتصل إليهما عشرات الملايين من الدولارات في صورة «تمويلٍ إنساني دولي».
ورغم شجب الكثيرين لفساده المزعوم ودعمه للنظام، يحظى مخلوف بدعمٍ من قطاعاتٍ من المجتمع العلوي. وشدَّدَ مخلوف على أن مؤسِّسته وأعماله الخيرية تشهد نشاطاً في منطقة الساحل، وهي منطقة بها عدد كبير من السُكَّان العلويين. وفرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوباتٍ على منظمة البستان الخيرية لمخلوف، بسبب صلاتها المزعومة بالميليشيات الموالية للنظام.
وجادَلَت الخطيب بأن مخلوف استخدَمَ الفيديوهات لتصوير نفسه باعتباره حامياً للمصالح العلوية، فيما حذَّرَ بعض المُعلِّقين الموالين للنظام من أن خطواتٍ إضافية ضد مخلوف قد تتسبَّب في نزاعٍ بين العلويين.
وكَتَبَ شريف شحادة، العضو البرلماني السابق والموالي البارز للنظام، على فيسبوك: «لا تُعرِّضوا منطقة الساحل للنيران والحروب والدمار».
وقال مخلوف، الذي زَعَمَ أن أجهزة الأمن تستهدف موظَّفي سيريتل دون أن يُحدِّد أيَّ أجهزةٍ على وجه الدقة، مُوجِّهاً حديثه للأسد: «هؤلاء هم شعبك، وهم مخلصون لك».
لكن الأسد لم يرد علانيةً. وفي خطابٍ أُذيعَ يوم الإثنين 4 مايو، طَلَبَ الأسد من المسؤولين أن يوجدوا حلولاً لكبح الارتفاع الجامح في الأسعار وأن يضعوا حداً للفساد، لكنه لم يأتِ على ذِكر ابن خاله.
أما صحيفة لوموند الفرنسية فقالت إنه منذ خمسين عاما، لم تكن عائلة الأسد التي تحكم سوريا ممزقة على رؤوس الأشهاد كما هي اليوم، بعد أن تفجر الصراع بين الأسد وابن خاله مخلوف على وسائل التواصل الاجتماعي، خلافا لقاعدة كتم النزاعات في إطار العائلة.
بهذا الملخص، افتتحت الصحيفة الفرنسية مقالا بقلم الصحفي المخضرم ومراسلها في بيروت بنيامين بارت، قال فيه إن المواجهة بين مؤسس النظام حافظ الأسد وشقيقه رفعت عام 1984، وإن لم تكن بعيدة من الخروج إلى الشارع، لم تكتب عنها الصحافة الرسمية كلمة، حتى لا تفسد الوهم بوجود نظام هرمي مثالي متحد في طاعته لحاكم دمشق.
ولكن هذا المحظور -كما يقول الكاتب- كسر في الأيام الأخيرة بنشر مقطع فيديو على فيسبوك يخاطب فيه رامي مخلوف، أغنى رجل أعمال في سوريا، ابن خاله بشار الأسد الذي ينحدر مثله من الأقلية العلوية.
وفي المقطع الأول الذي بث على الإنترنت يوم الخميس 30 نيسان الماضي، ظهر قطب الاتصالات الذي يمقته المعارضون للنظام باعتباره رمزا للفساد، وهو يتوسل إلى رئيس الدولة لإعادة جدولة المتأخرات الضريبية التي تبلغ 178 مليون دولار والتي تطالب مجموعة بأدائها، حسب قوله.
وفي المقطع الثاني، الذي صدر يوم 3 مايو الحالي، شجب مخلوف (50 عاما) الذي مول إلى حد كبير قمع ثورة 2011 ضد الأسد، الضغوط التي تمارس على شركته سيرياتل التي تتربع على سوق الهواتف المحمولة، لا سيما اعتقال موظفين فيها.
وتساءل مخلوف «هل يمكن لأي شخص أن يتخيل أن الأجهزة الأمنية تهاجم شركات رامي مخلوف الذي كان أكبر داعم وراع لهذه الخدمات خلال الحرب؟»، مضيفا، فيما يشبه التهديد المبطن «إذا واصلنا السير في هذا الطريق سيصبح الوضع في البلاد صعبا للغاية».
بكائيات مضحكة
وقال الكاتب إن مثل هذا التباكي، من جانب رجل مثل رامي مخلوف اقتطع نصف اقتصاد البلاد، يعتبر أمرا مضحكا تماما بقدر ما تعد محاكمة السلطات له مثيرة للسخرية، فهي التي خفضت حصة الدولة من أرباح سيرياتل في عام 2014، من 60 % إلى 20 %.
واعتبر أن الخلاف بين الشريكين السابقين يمكن أن يكون دليلا على إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي السوري بعد تسع سنوات من الحرب الأهلية التي شهدت انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد من ستين مليار دولار في عام 2010، إلى 17 مليار اليوم.
وينقل الكاتب عن جوزيف ضاهر، الخبير السياسي السوري السويسري والباحث في معهد الجامعة الأوروبية في فلورانس إن «الأموال المقتطعة سنويا من الحكومة تراجعت بشكل كبير»، وبالتالي «يسعى الأسد وزوجته أسماء وأخوه ماهر إلى تركيز الثروة القليلة المتبقية في أيديهم وأيدي رجال الأعمال المرتبطين بهم، إذ لم تعد العائلة الصغيرة تريد الاعتماد على مخلوف الذي تنوي تقليل استقلاليته وإخضاعه للرئاسة».
وقال الكاتب إن المؤشرات الأولى للخلاف بين الأسد ومخلوف ظهرت في أغسطس 2019، ووقتها بدأت شائعات تتحدث عن توقيف مخلوف في المنزل والاستيلاء على جزء من ممتلكاته، بعد الصدمة التي أحدثتها الصور التي نشرها ابناه على منصات التواصل.
وهكذا -يضيف الكاتب- وجد المستفيد الأول من عمليات الخصخصة التي قررها بشار الأسد عندما وصل إلى السلطة عام 2000، نفسه متهما بالتهرب من الضرائب.
ومع أن وضع مخلوف في الإقامة الجبرية لم يثبت، فإن وزارة المالية جمدت أصوله في ديسمبر 2019 بشكل رسمي، في إجراء شمل أيمن جابر المتخصص في المحروقات، وطريف الأخرس بطل صناعة المواد الغذائية، وسامر الدبس رئيس غرفة التجارة والصناعة بدمشق.
وفي السياق، وضعت «إم تي إن»، ثاني أكبر شبكة للهاتف المحمول، تحت وصاية إحدى المقربات من أسماء الأسد، وربما يكون مصير مشابه ينتظر سيرياتل، إما التأميم وإما الاستيلاء على رأس المال، كما يقول الكاتب.
على منوال ريتز كارلتون
وينقل الكاتب عن رجل أعمال علوي يتنقل بين دمشق وبيروت قوله إن «بشار الأسد يريد استعادة أمواله»، في عملية «مستوحاة من عملية فندق ريتز كارلتون»، في إشارة إلى العملية التي سمحت لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالسيطرة، في شتاء 2018، على أصول مئات الشخصيات المرموقة في المملكة، بينهم أعضاء في الأسرة الحاكمة.
وكما هي الحال في السعودية عندما استغل بن سلمان الأمر لتحييد المنافسين، فإن مناورة الأسد قامت بسبب الضرورات الاقتصادية إضافة إلى الحسابات الشخصية.
وقال أيمن عبد النور، مدير موقع إخباري مؤيد للمعارضة «إن الطوابير أمام المخابز أصبحت أطول. والحكومة بحاجة إلى المال لشراء القمح من الروس، كما أن أسماء الأسد أيضا تريد تأمين مستقبل أطفالها».
وأوضح الكاتب أن الحملة أجريت بشكل انتقائي، ونجا منها العديد من المستفيدين من الحرب ممن ينظر إليهم على أنهم فاسدون، مثل سامر فوز صاحب فندق فورسيزونز، أرقى فندق في دمشق.
ومن بين جميع رجال الأعمال الذين استجوبتهم الحكومة، كان رامي مخلوف هو الوحيد الذي تجرأ على الدفاع عن نفسه علنا، لمكانته العائلية، لأن «أي شخص آخر كان من الممكن تصفيته خلال ساعة».
ومن خلال النشر على فيسبوك، يرى الكاتب أن مخلوف يسعى للاستفادة من الدعم الذي يحظى به بين العلويين المستفيدين الرئيسيين من المساعدات التي توزعها منظمته الخيرية «البستان».
يرى جوزيف ضاهر أن «مخلوف على عكس رفعت الأسد، ليست لديه دبابات ولا نية الإطاحة ببشار الأسد، ولكن لديه نفوذ واتصالات ببعض الأجهزة الأمنية وميليشيات مستأجرة يمكن أن يخلق بها نوعا من عدم الاستقرار، مما قد يدفع ابن خاله إلى إيجاد تسوية معه، خاصة أن شخصيات من الطائفة العلوية تخشى أن تعاني الأقلية من هذه الأزمة، بدأت بالفعل وساطة بينهما.عادةً ما يستمتع السوريون خلال شهر رمضان بألمع المسلسلات الدرامية، لكن في هذا الشهر المبارك تشد أنظارهم ملحمةٌ عائليةٌ حقيقيةٌ لا مثيل لها. انفَجَرَ نزاعٌ عائلي داخل العائلة السورية الحاكمة، المُتكتِّمة عادةً على مجرياتها الداخلية، حيث يواجه أحد المليارديرات ابن عمته، الذي هو الرئيس نفسه، بشار الأسد، كما تصف ذلك صحيفة Financial Times البريطانية.
فبعد ثمانية أعوام من العمل الخفي، بينما كان يسيطر على إمبراطورية أعمالٍ كبرى، نَشَرَ رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشَّار الأسد وقطب الأعمال الأكبر في البلد الذي مزَّقَته الحرب، مقطع فيديو يظهر فيه بادِّعاءٍ غير مُتوقَّع أن السلطات السورية تنهب أعماله والشرطة السرية تستهدف موظَّفيه.
copy short url   نسخ
15/05/2020
1194