+ A
A -
بعد أن ألقت روسيا بكل ثقلها العسكري خلف بقاء بشار الأسد في منصبه، وعلى مدى أكثر من خمس سنوات أريقت دماء السوريين المعارضين لحكم الأسد، فما الذي دفع موسكو الآن للانقلاب على بشار وحليفته طهران؟
موقع ذا ديلي بيست الأميركي نشر تقريراً بعنوان: «بعد خمس سنوات من إراقة الدماء معاً في سوريا، روسيا تنقلب أخيراً ضد إيران والأسد»، ألقى الضوء على الأسباب وراء الانقلاب الروسي وموقف الأسد وإيران مما يجري.
بعد خمس سنوات من القتال للإبقاء على نظام بشار الأسد في سوريا، يبدو أن روسيا بدأت تجنح الآن إلى التخلص من زبونها سيئ السمعة، فقد تفاقمت وحشية الأسد وفساده المستمر، وعدم قدرته على إقامة دولة تقوم ولو ظاهرياً بوظائفها، حتى بات عبئاً تفضّل موسكو ألا تتحمله.
ثم إن هناك مشكلة إيران؛ إذ يتمتع الأسد وأفراد عائلته وعشائره العلوية بروابط وثيقة، وربما عصية على الانقطاع، مع النظام في طهران والميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، وكل ذلك يقوّض مهمة موسكو الأساسية هناك: إعادة تأهيل نظام الأسد ليبدو رمزاً لاستقرار قادر على اجتذاب مئات المليارات من دولارات الاستثمارات الأجنبية لإعادة الإعمار، والتي أخذت الشركات الروسية تعد العدة لاستقبالها.
غير أن الواقع أنه ما دام أقارب الأسد يواصلون العمل كمافيا ويطلقون العنان للقوات الإيرانية التي تستخدم سوريا قاعدةً للعمليات لتهديد إسرائيل والتخطيط لهجمات ضد القوات الأميركية في العراق، فإن الدول التي يفترض أن تدفع فاتورة إعادة الإعمار -دول أوروبا والخليج- من المستبعد أن تأتي بالمال في ظل هذه المعطيات.
ولم يكن هذا ليغيب عن الولايات المتحدة
ومن ثم رأينا جيمس جيفري، المبعوث الأميركي الخاص للتحالف الدولي ضد داعش، في مؤتمر صحفي لوزارة الخارجية الأميركية يوم الخميس 7 مايو، يقول: «إن الأسد لم يفعل أي شيء لمساعدة الروس في التسويق لهذا النظام. فحيثما نظرت، ستجد أن الأسد ليس لديه سوى العصابات من حوله، وهؤلاء لا يروجون لصورة جيدة عن النظام سواء في العالم العربي أم في أوروبا. لقد سمعنا مراراً وتكراراً من الروس ما يمكن القول إنه يشي بأنهم يفهمون جيداً مدى سوء الأسد».
وأشار جيفري إلى أن «رفض رئيس النظام السوري تقديم أي تنازلات» من أجل الحصول على اعتراف دبلوماسي وقبول لنظامه قد غامر بخطر التراجع عن «مئات مليارات الدولارات من المساعدات المخصصة لإعادة الإعمار» في سوريا.
ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تستغل إدارة ترامب هذا الخلاف المتنامي، فبحسب جيفري، فإن «إخراج روسيا من سوريا لم يكن هدفاً لنا أبداً. روسيا موجودة هناك منذ 30 عاماً. ولها علاقة طويلة الأمد مع سوريا. ونحن لا نعتقد أنها كانت علاقة مفيدة للمنطقة، ولا حتى مفيدة لروسيا. لكن هذه ليست سياستنا».
هجوم إعلامي
تأتي تصريحات جيفري بعد أسبوع واحد فقط من إطلاق وسائل الإعلام الروسية العنان لسيلٍ من التقارير والمقالات الافتتاحية التي تستهدف بشار الأسد، وتصوير الرئيس المحاصر على أنه فاسد لا أمل في إصلاحه وغير مؤهل للحكم، ومشيرةً في الآن نفسه إلى أن الوقت قد حان لاستبداله وإحلال زعيم جديد.
الدفعة الأولى من تلك المقالات نشرتها «وكالة الأنباء الفيدرالية الروسية» (FNA)، وهو منبر مملوك لإيفغيني بريغوجين، أحد أعضاء الأوليغاركية الحاكمة الروسية ورئيس عديد من الشركات المتورطة في فضيحة التدخل في الانتخابات الأميركية عام 2016. وعلى مدى ثلاث ساعات بالكاد في 17 أبريل/‏نيسان، كان لتلك المقالات أن تهز سوريا من أركانها حتى صميمها.
سلطت المقالات الثلاثة المذكورة الضوءَ على مخطط فساد نفّذه النظام في صيف عام 2019، وكذب فيه رئيس الوزراء السوري على المواطنين بشأن ندرة تعانيها البلاد من إمدادات النفط والغاز، لتبرير حدوث انقطاع طويل في الطاقة الكهربائية في الوقت الذي كان فيه النظام يبيع الكهرباء السورية إلى رجال أعمال في لبنان. واستشهد المقال الثاني باستطلاع رأي زعم أن 32 % فقط من السوريين سيصوتون للأسد في الانتخابات الرئاسية المقبلة للبلاد في عام 2021.
أما المقال الثالث والأخير، فقد حمل عنوان «الفساد أسوأ من الإرهاب»، وانتقد رئيس النظام الأسد لفشله شخصياً في مكافحة الفساد، المتفشي في جميع مستويات الدولة.
وكان نشر هذه المعلومات بواسطة وكالة الأنباء التابعة لبريغوجين، المقرب من النظام الروسي وقائد «مجموعة فاغنر» التي يقاتل مرتزقتها بجانب النظام منذ أكتوبر 2015 إشارةً يصعب على الأسد تفويتها.
كما أن مقالة الفساد أشارت، وعلى نحو موحٍ، إلى أن عائلة الأسد ليست العائلة القوية الوحيدة في سوريا، «فهناك أيضاً آل مخلوف»، والحديث هنا عن رامي مخلوف، وهو في الواقع ابن خال بشار الأسد المباشر، وأغنى رجل في سوريا، وكذلك، على ما يبدو، رجل روسيا فيها. أما المؤكد فهو أن لديه علاقات قوية مع الكرملين، كما أنه كان لسنوات أحد أشد منتقدي الوجود الإيراني في سوريا.
المقالات التي نشرتها وكالة الأنباء الفيدرالية في 17 أبريل تَبعتها موجةٌ أخرى من المقالات والمواد الإعلامية على مدى الأيام الـ12 التالية، والتي ستدفع النظام الروسي إلى مزيد من التأكد أن موسكو تدرس خيارات أخرى غير الأسد لحكم سوريا.
تضمنت تلك المقالات مقالةً افتتاحية نشرتها وكالة «تاس» TASS، وهي أكبر وكالة أنباء روسية تديرها الدولة، تشير إلى أن «روسيا لم تعد تشك فقط في أن النظام السوري قادر على قيادة البلاد بعد الآن، بل إن رئيس النظام السوري يجرّ موسكو نحو السيناريو الأفغاني». وفي وسط هذه التغطية، وجهت «تاس» أيضاً ضربات سريعة ضد إيران، زاعمة أن النظام الإيراني «ليس لديه مصلحة في تحقيق الاستقرار في المنطقة، لأنه يعتبرها ساحة معركة مستمرة مع واشنطن».
وفي 30 أبريل، أصدر مجلس الشؤون الدولية الروسي (RIAC)، وهو مركز أبحاث أنشأته وزارة الخارجية في موسكو، تقريراً حمل انتقادات لاذعة للنظام السوري، وقال إن روسيا تجري محادثات مع أطراف أخرى في الصراع السوري لوضع خطط لحلٍّ سياسي لا يشمل بشار الأسد رئيساً للبلاد.
في ذلك اليوم، عمد رامي مخلوف، الذي جُمّدت أصوله قبل خمسة أشهر كجزء من نزاع ضريبي، إلى نشر مقطع فيديو على صفحته الشخصية على فيسبوك يتهم فيه نظام الأسد بالفساد. لتأتي المقاطع التي جاءت في أعقاب الهجمات الإعلامية الروسية غير المسبوقة، بتوابع إحساسٍ بالصدمة انتشر في جميع أنحاء البلاد.
العائلة المالكة
في حين أنه من الواضح أن عشيرة مخلوف من العائلة قد ألقت برهانها على روسيا، فإن الأعضاء الرئيسيين في عائلة الأسد المباشرة وغيرهم ممن لهم صلات ببلدة «القرداحة»، مسقط رأس بشار الأسد في محافظة اللاذقية في سوريا، هم في أغلبهم من قادة الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، وهو تحالف يعود إلى زمن حافظ الأسد، الذي ولد في القرداحة، وأقام علاقات مع الثورة الإيرانية منذ بدايتها قبل أكثر من 40 عاماً.
انخرط قادة ميليشيات القرداحة هؤلاء على نحو متكرر في اشتباكات مسلحة ضد الوحدات المدعومة من روسيا، وهم يشرفون على شبكات واسعة من الفساد تشبه تلك التي تصرخ وسائل الإعلام الروسية الآن بانتقادها، وعلى رأسهم الأخ الأصغر لبشار، ماهر الأسد.
في الوقت الحالي، يسيطر أعضاء الفرقة الرابعة المدرعة، التي يتولى قيادتها ماهر الأسد، على عديد من عمليات التهريب في جميع أنحاء البلاد، في مدينة البوكمال على الحدود الشرقية لسوريا مع العراق إلى اللاذقية على الساحل الغربي للبلاد، حيث أُجِّر الميناء لإيران في 1 أكتوبر من العام الماضي. ومنذ ذلك الحين، أصبح أحد أكبر مراكز تهريب المخدرات إلى أسواق أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
والأمثلة كثيرة، ليس أقلها ما حدث في 5 يوليو 2019، إذ أعلن خفر السواحل اليوناني وقوات مكافحة المخدرات عن أكبر عملية ضبط للمخدرات في تاريخ البلاد، بعد أن ضبطوا كميةً بلغت 5.25 طن (33 مليون قرص) من أمفيتامين الكبتاجون بقيمة 660 مليون دولار مخبأة في حاويات شحن محمَّلة في ميناء اللاذقية بسوريا، وفي أواخر أبريل 2020، أعلن مسؤولو الجمارك في كل من السعودية ومصر أيضاً عن ضبط كميات مماثلة من المخدرات في حاويات قادمة من اللاذقية.
وكانت الفرقة الرابعة قد شنَّت في يناير 2019 هجمات على وحدة قوات النمر المدعومة من روسيا، في محاولة لانتزاع السيطرة على طرق التهريب بين الأراضي الخاضعة للنظام والمعارضة في محافظة إدلب شمالي البلاد. دفعت هذه المناوشات وغيرها روسيا إلى دعم حملة كبرى لاعتقال قيادات الفرقة الرابعة وغيرها من الوحدات المدعومة من إيران في جميع أنحاء البلاد ابتداء من أبريل 2019، والتي نجحت في اعتقال عديد من ضباط الرتب المتوسطة الموالين لإيران.
إن التهديد الذي يشكله استحواذ إيران على ميناء اللاذقية ودعمها لوكلاء الأسد المحليين في منطقة الساحل السوري يتفاقم بشدة إذا استحضرنا حقيقة أن طهران بدأت أيضاً في إحراز تقدم فيما يتعلق باستكمال خط سكة حديد شلمجة، الذي يمر عبر البصرة وبغداد والبوكمال ودمشق إلى اللاذقية، مانحاً طهران إمكانية الوصول إلى السواحل السورية واللبنانية.
ومن ثم، إذا تمكنت إيران من دمج ميناء اللاذقية مع خط شلمجة للسكك الحديدية، فإنها سوف تعزل قاعدة حميميم الروسية عن بقية القوات الروسية في وسط وجنوب سوريا، وتمكّن طهران من إيصال الأسلحة بسرعة إلى القوات المتحالفة معها في اللاذقية والتي تخوض بالفعل اشتباكات مسلحة ضد مجموعات مدعومة من روسيا.
إجماع عالمي
أثار عجز موسكو عن السيطرة على الميليشيات السورية المدعومة من إيران والمتورطة في جرائم واسعة النطاق وفساد مستشرٍ واعتداءات على القوات الروسية غضبَ الكرملين، لكن روسيا ليست الطرف الوحيد على الأرض الذي لديه حسابات ومصالح للإطاحة بإيران، فقد غضت القيادة العسكرية الروسية في سوريا الطرف عن الضربات الإسرائيلية المستمرة على القوات الإيرانية، إن لم تكن دعمتها إلى حد كبير في جميع أنحاء البلاد.
وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن الهجمات الإسرائيلية تضاعفت من جهة وتيرتها ونطاقها منذ أبريل، بعد موجة المقالات الإعلامية الروسية التي هاجمت الأسد ونظامه.
بدون روسيا، وجدت إيران نفسها الرجل الغريب المعزول في سوريا، إذ لا تزال الطرف الوحيد الذي يسعى إلى خوض الحرب في وقت تعاني فيه معظم الأطراف الدولية الأخرى ذات الصلة من التعب وتسعى ببساطة إلى إعادة رتق الأراضي السورية الممزقة إلى بعضها بعضاً، حتى إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الراعي الأخير لقوات المعارضة المنهكة، قد عمد إلى صنع السلام مع موسكو، ووافق فعلياً في مارس الماضي على التخلي عن السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي التي كانت خاضعة للمعارضة بعد حملة دامية شنتها روسيا على آخر معاقل الجيش السوري الحر في إدلب.
ومن المفارقات، أن رغبة أردوغان التي طال أمدها بخصوص الإطاحة برئيس النظام السوري قد لا يزال ممكناً تحققها، وإن لم يكن على النحو الذي توقعه هو، لأن إزاحة الأسد قد تأتي على يد روسيا نفسها، وليس الثورة السورية.
copy short url   نسخ
13/05/2020
638