+ A
A -
صراع أيديولوجي
وجّه مات بوتينجر، المسؤول الرفيع في البيت الأبيض، رسالة حادة إلى الصين هذا الأسبوع في مقطع نُشر لاحقاً على موقع يوتيوب، وفي حديثه بطلاقة بلغة الماندرين، أشاد بوتينجر بالشخصيات التاريخية الصينية التي دعمت المُثُل الديمقراطية وساعدت في أربعينيات القرن الماضي في كتابة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي لا يزال حتى يومنا هذا ركيزة القيم الليبرالية.
قال بوتينجر، نائب مستشار الأمن القومي الأميركي: «الأفكار المبتذلة التي تقول إن الصينيين لا يمكن الوثوق بهم مع الديمقراطية.. كانت أكثر فكرة مخالفة للوطنية على الإطلاق»، وأشاد بوتينجر كذلك بالصينيين الذين أبقوا شعلة الحرية بخير اليوم، ومن بينهم 20 قساً كاثوليكياً «رفضوا إخضاع الرب للحزب وكذلك ملايين مواطني هونغ كونغ الذين تظاهروا بسلمية من أجل سيادة القانون في العام الماضي».
كان رد فعل بكين مهيناً، وقالت هوا تشون ينغ، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية: «يعتقد السيد بوتينجر أنه يفهم الصين حقاً، ولكن يبدو من هذا الخطاب أنه لا يفهم الصين حقاً، لأنه يحمل انحيازاً شديداً ضد الصين».
قد يكون من المغري رؤية هذه الجولة الأخيرة من السجال الأميركي - الصيني على أنها انتهازيةٌ قصيرة المدى، وحيال فقدان الوظائف التاريخي وما بعده في عمليات التصويت في الانتخابات، تحول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إلقاء اللوم على الصين في صراعات إدارته أثناء تصديها لفيروسات كورونا.
في حديثه عن الجائحة هذا الأسبوع، قال ترامب: «هذا أسوأ من بيرل هاربور. إنه أسوأ من حادثة مركز التجارة العالمي. لم يحدث هجوم مثل هذا أبداً»، وقال: «كان يمكن إيقافه في الصين. كان يجب إيقافه في منبعه مباشرة، ولم يحدث ذلك»، وادعى كذلك أن الفيروس جاء من مختبرٍ في ووهان.
بالنسبة لبكين، تعد الانتقادات اللاذعة في الولايات المتحدة جزءاً من حملة أوسع للانتقال بالخطاب بعيداً عن التستر على ما يحدث في الأسابيع الأولى من تفشي المرض. ويُعدُّ التصريح الذي صدر يوم الخميس 7 مايو عن أن المحادثات التجارية بين البلدين ما زالت على المسار الصحيح بمثابة تذكير أيضاً بأن حقيقة العلاقات بين القوى العظمى يمكن أن تختلف في كثير من الأحيان عن الخطب الرنانة.
الخلاف ليس وليد الجائحة
ومع ذلك، لم يكن الخلاف الذي دار هذا الأسبوع، والذي اتّسم بالحدّة، سوى واحد من بين العديد من الخلافات بين واشنطن وبكين في الأشهر الأخيرة، والتي سلطت الضوء على واقع مصيري جديد. بعد أكثر من 40 عاماً من «الاشتباك» بين الولايات المتحدة والصين، لم تتمكن القوتان العُظميان من سد الفجوة الأيديولوجية التي تُباعِد بينهما. قد تكون جائحة عالمية بمثابة فرصة لمزيد من التعاون، غير أنها بدلاً من ذلك، جعلت الانقسام أشد وضوحاً.
يقف البلدان الآن على حافة ما يطلق عليه جان بيير كابستان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هونغ كونغ المعمدانية، «نوعاً جديداً من الحرب الباردة» – وهي عبارة بدأ كثير من المحللين في استخدامها، وبينما قد تختلف هذه الحقبة الجديدة من التنافس الجغرافي السياسي في نواح مهمة عن التوترات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي التي استمرت بين عامي 1947 و1991، إلا أن الاختلافات التي يتعذر التوفيق بينها في ما يتعلق بالقيم السياسية والطموحات الاستراتيجية تتسبب في نزع الثقة.
من خلال المنافسة المتزايدة بين واشنطن وبكين، سوف تتحدَّد جزئياً كل من السرعة التي يتعافى بها الاقتصاد العالمي من الجائحة وحالة العولمة التي تتغلب على هذه الأزمة.
يقول وانغ هوي ياو، رئيس مركز Center for China and Globalization، وهو مركز أبحاث غير حكومي في بكين: «وصل مستوى الثقة بين الصين والولايات المتحدة إلى أدنى مستوياته منذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية لأول مرة في عام 1979».
لم يكن الصراع العسكري محتملاً، وكان لا يزال من الممكن إصلاح العلاقات إذا اتُّخذت إجراءاتٌ حكيمة، ويقول: «لكن يكمن الخطر في أن سنوات ازدهار العولمة سوف تنتهي وقد نرى النظام العالمي ينقسم إلى شطرين». وأضاف: «من شأن ذلك أن يبطئ النمو العالمي إلى حد كبير، وعلى البلدان النامية أن تنحاز إلى أحد المعسكرين».
وصول شي للسلطة
في الواقع، بدأ تدهور العلاقات الأميركية الصينية قبل وقت طويل من تفشي الجائحة بل وحتى قبل رئاسة ترامب، ويقول إيفان ميديروس، كبير مستشاري الشؤون الآسيوية سابقاً في مجلس الأمن القومي الأميركي أثناء إدارة باراك أوباما، إن تحولاً جوهرياً قد طرأ على علاقة البلدين. وأضاف: «تتباعد المصالح الأميركية الآن (عن مصالح الصين) أكثر مما تتقارب في ما يتعلق بمجموعة واسعة من القضايا، وكذلك تتقلص الجوانب التي يمكن أن نتعاون فيها».
ويقول تشين تشيو، أستاذ العلوم المالية في جامعة هونغ كونغ، إن عودة الصين إلى التقاليد الشيوعية منذ أن أصبح شي جين بينغ رئيساً في عام 2013 كان له تأثير حاسم، وأضاف: «السبب الرئيسي (في تدهور العلاقات) هو الاختلاف الأساسي في الأيديولوجيا بين الولايات المتحدة والصين». بين عامي 1978 و2012، نحَّى الحزب الشيوعي أصوله الشيوعية جانباً وركَّز على تطوير قوة اقتصادية، وما إن نجحت الصين اقتصادياً حتى عاد الحزب الشيوعي الصيني إلى التركيز على مقاصده الأصلية (المتعلقة بإقامة الاشتراكية).
نشأت علاقات الصين مع الولايات المتحدة طوال معظم السنوات الأربعين الماضية استناداً إلى معادلة مضطربة بحكم طبيعتها، وكان كل من الجانبين على استعداد للتقليل من أهمية الاختلافات الأيديولوجية والتوترات الاستراتيجية من أجل الاستفادة من التعاون الاقتصادي، وعلى مدى عقود، حققت هذه الصفقة الرابحة مكاسب تجارية هائلة؛ إذ بلغ متوسط زيادة الناتج المحلي الإجمالي السنوي للصين أكثر بقليل من 9 % منذ عام 1989، مما جعلها المحرك الأساسي للنمو العالمي.
تشابك اقتصادي
قدّمت مستويات الترابط التجاري التي نشأت من هذا النمو المثبِّت الأساسي في هذه العلاقة، وأنشأت عشرات الآلاف من الشركات الأميركية أعمالها في الصين، وبلغت التجارة الثنائية في العام الماضي 541 مليار دولار، والآن تبيع شركات صناعة السيارات الأميركية، مثل جنرال موتورز، سيارات في الصين أكثر مما تبيعه في الولايات المتحدة. يدرس حوالي 370 ألف طالب صيني في الولايات المتحدة، من بينهم العديد من أبناء وأحفاد النخبة السياسية في بكين.
رفض الهيمنة الأميركية
لكن مع نمو الاقتصاد الصيني، كانت طموحاتها تنمو أيضاً، فقد أظهرت على نحو متزايد قدراً أقل من الاستعداد لقبول الزعامة العالمية الأميركية وبدأت في اقتطاع مناطق نفوذ جغرافية.
أحد الانتهاكات الخطيرة للثقة كان بعد أن وعد الرئيس الصيني أوباما في عام 2015 بأن الصين لن تبني تحصينات عسكرية في العديد من الجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي، وهو الطريق البحري في آسيا، ولكن بعد مرور أكثر من عام بقليل، أظهرت صور القمر الصناعي أن شي كاذب، وقد نُشرت مدافع كبيرة مضادة للطائرات وأنظمة أسلحة أخرى في الجزر.
ووفقاً لمسؤولين أميركيين سابقين، رفضوا الكشف عن هويتهم، كان الدافع الآخر وراء تشدد المواقف الرسمية الأميركية هو ملاحقة شبكة التجسس الأميركية في الصين بدءاً من عام 2010. وبحسب ما ورد، أُعدم ما لا يقل عن 30 جاسوساً في عملية المسح الصينية هذه، تاركين المسؤولين الأميركيين «مصدومين» من دقة المخابرات المضادة الصينية.
لقد كان الصينيون منتقدين أشداء للأعمال العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، في حين أن الأميركيين قلقون من قوة الصين في المحيط الهندي وإفريقيا وأماكن أخرى، جزئياً من خلال مبادرة الحزام والطريق، وفي بكين، يلقي كثيرون باللائمة على التوترات إزاء قلق قوة عظمى آخذة في الانحدار، وفي واشنطن، يخشون فرط ثقة قوة عظمى آخذة في الصعود.
رد الفعل الأميركي
ساعد كل هذا في خلق إجماع من الحزبين في واشنطن تجاه التشدد مع الصين، وهو ما يمتد الآن إلى عامة الناس، ووجد استطلاع أجراه مركز Pew Research Center للأبحاث في مارس أن 66 % من الأميركيين لديهم الآن نظرة سلبية تجاه الصين، بزيادة تقارب 20 نقطة مئوية منذ بداية إدارة ترامب، وهو المعدل الأكثر سلبية منذ بدء المسح في عام 2005، وأكثر من 60 % اعتبروا قوة الصين ونفوذها «تهديداً كبيراً»، وأعربوا عن قلقهم بشكل خاص إزاء الهجمات السيبرانية والتلوث.
وبينما كانت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ذات ثقل موازن للعلاقة لسنوات عديدة، فقد أصبح رأي الشركات تجاه الصين أكثر سلبية نتيجة لادعاءاتٍ بسرقة الملكية الفكرية، وقد ساعد هذا بدوره على إثارة قرارات واشنطن بفرض رسوم جمركية على مجموعة من السلع الصينية، مما أدى إلى حرب تجارية لمدة 20 شهراً لم تعلق إلا في شهر يناير/كانون الثاني مع اتفاق هدنة لا يزال هشاً للغاية.
مؤشرات التوتر متسارعة
وفي أحد المؤشرات على السرعة التي تتغير بها العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، تقدر مجموعة Rhodium Group، وهي شركة استشارية مقرها نيويورك، أن إجمالي الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة انخفض إلى 5 مليارات دولار العام الماضي، بعد أن بلغ ذروته مؤخراً بنحو 45 مليار دولار في عام 2016، عندما كانت الشركات الصينية أكثر حرية في الاستحواذ على نظيراتها الأميركية.
وقد يتجنب جو بايدن، المنافس الديمقراطي المفترض في سباق الوصول للبيت الأبيض، لغة المواجهة التي يستخدمها منافسه، لكن محللين يقولون إنه من المرجح أن يتنافس المرشحان ليكونا الأكثر صرامة تجاه الصين مع اقترابهما من الانتخابات نوفمبر.
وفي إشارة إلى مزيد من الضغط المحتمل، كانت إدارة ترامب والمشرعون في الكونغرس يفكرون في اتخاذ تحركات أخرى ضد الصين، بما في ذلك ضوابط أكثر صرامة على الصادرات، وقيود على تدفقات الاستثمار، وحدود على سلاسل التوريد المتكاملة بين البلدين؛ كل هذا في خضم ركود عالمي عميق.
كما هدد ترامب بـ «إنهاء» اتفاقية يناير التجارية مع الصين، والتي يمكن أن تؤدي إلى تصاعد جديد في التعريفات الجمركية، بسبب الشك في استعداد الصين للوفاء بتعهدها بشراء مليارات الدولارات من السلع الأميركية.
وتقول بوني جلاسر، الخبيرة بالشأن الصيني في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن: «إذا لم نكن في حالة تنافس من قبل، فكلانا أصبح فيها الآن».
لا فصل
سواء تحققت مثل هذه التدابير أو لم تتحقق، فإنها سوف تعتمد في الأرجح على التفاعل بين المتشددين والمعتدلين في الصين داخل الإدارة الأميركية، والضغط من مجتمع الأعمال، وحسابات ترامب السياسية الخاصة في حملته لإعادة انتخابه.
وكانت هناك علامات يوم الخميس 7 مايو على أن الاتفاق التجاري لا يزال على المسار الصحيح، فقد أجرى روبرت لايتهايزر، الممثل التجاري للولايات المتحدة، وستيفن منوشين، وزير الخزانة، مكالمة هاتفية مع ليو هي، نائب رئيس الوزراء الصيني، مساء الخميس، لمناقشة تنفيذ اتفاقية «المرحلة الأولى»، وقال مكتب ووزارة الخزانة الأميركية في بيان مشترك: «اتفق الطرفان على إحراز تقدم جيد.. ونتوقع منهم الوفاء بالتزاماتهم بشكل تام بموجب الاتفاقية في الوقت المناسب».
ويقول كابيستان إنه حتى لو أصبحت العلاقة تشبه عناصر الحرب الباردة، فسوف يكون هذا الخلاف أقل تطرفاً مما كان عليه أيام الاتحاد السوفياتي، ويقول إن ضغوط الشركات الأميركية -خاصة في صناعات مثل أشباه الموصلات التي تعتمد على الطلب الصيني- لن تسمح بأي شيء يقترب من فكرة «فصل» كامل لسلاسل التوريد.
ولكن حتى إذا كان من الممكن ترسيخ هذا الجانب من العلاقات الأميركية الصينية، فإن بعض المراقبين يتوقعون استمرار التوتر، مع تسبب المشاعر القومية والركود في تمكين المواقف المتشددة في البلدين.
يقول ميكو هووتاري، المدير التنفيذي في Merics، وهو مركز أبحاث حول الصين ومقره برلين: «سوف يكون من الصعب للغاية ترسيخ العلاقة المتدهورة مرة أخرى في هذه الدوامة. وستبقى المنافسة الاستراتيجية هي النموذج السائد، والسؤال هو ما إذا كان هذا التحرك يميل نحو عداء دائم وشامل».التصعيد المتبادل بين بكين وواشنطن حالياً ربما يبدو أنه بسبب وباء كورونا القاتل وتفشيه في عام الانتخابات الأميركية، لكن العلاقة بينهما أعقد من ذلك وأقدم، فالصين تتمرد على الهيمنة الأميركية منذ سنوات والآن هي حرب باردة بين شرطي العالم وقوة صاعدة تريد أن تقود العالم، فما سيناريوهات هذا الصراع؟
صحيفة فايننشال تايمز البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: «الولايات المتحدة والصين: هل تتجهان نحو نوع جديد من الحرب الباردة؟»، ألقى الضوء على تاريخ العلاقات بين الصين والولايات المتحدة والعناصر التي تؤجج الحرب الباردة بينهما الآن وتلك التي يمكن أن تمنع تحولها لصراع مسلح.
copy short url   نسخ
13/05/2020
684