+ A
A -
بقلم
د. سعاد درير
كاتبة مغربية
دالية الفقر موحشة، وعناقيدها مُرٌّ عِنَبُها، لكنك أحيانا سَتَجِدُ يا صديقي مَن يُسْكِرُهُ العنب المرّ سُكْراً يبعث فيه النشوة الفنية حدّ أن تتفجر خلاياه بِعَرَق طيب تنبع منه العبقرية..
فما بالك يا صديقي حين يَتَّحِدُ الفقر مع المرض لِيُدَمِّرَا هيكل إنسان كان، ومتى؟! بعد أن يؤهلاه لبِناء صَرح المجد الفني ذاك الذي لا يَبْلَى ولا يَموت، بل أكثر من ذلكَ فإن الزمن يصيِّرُه القُوت، إنه قوت من يملك أذنا فنية تُجيد الإصغاء بلذة من يتراقص ثمالة من كثرة التماهي مع النص السمعي..
بين مَن كانت تضطره مطرقة واقع الفقر إلى أن يعزف على آلة الكمان في الشوارع طلبا لشيء من المال مِن فرط الحاجة والإهمال، ومَن كان يَفرض عليه خنجر البؤس أن يَنْدَسَّ تحت الفراش عاريا لتُجَرِّبَ زوجته المتعثرة في نُشارة قِلَّةِ حيلتها أن تَغسل القميص الوحيد الذي يملكه (وتَغسل بالْمِثل حُزنها القديم الذي لا تَطويه الأيام المقفِرة)، كان هناك صوت لا ينأى عن حقيقة النَّعيق..
لِنَقُلْ إنه نَعيق غُراب الفقر ذاك الذي كان يُشكل القاسم المشترَك بين عدد من الفنانين الموسيقيين، ومَن هُم سِوى أولئك الذين عاشوا حياة موبوءة بطاعون الفقر الذي عرَّى آدميتهم وقَلَّصَ مسافةَ أقدامهم إلى مُدُن الحظ..
لكن أمَا عَلِمُوا هُم أن الصدفة كانت تخبئ لهم وعدا مع الاعتراف؟!
أما عَلِمُوا هُم أن القَدَرَ كان يُرَتِّبُ لهم نجاحا مدويا تحت الشمس؟!
وأين كان هذا وذاك وذلك ليَتِمّ؟! لِنَقُلْ خلف قضبان الحياة..
فولفغانغ أمادوز موزار Wolfgang Amadeus Mozart لم يكن غير واحد من هؤلاء الذين انْتَشَلَهُم منقارُ الفقر بعيدا عن حرير رَغَد الحياة التي كان يَحلم بها هؤلاء الذين يزرعون الإحساس في قلوب الناس، وكيف؟! بفضل ما يَبثونهم من عذب ألحانهم الشجية وموسيقاهم السخية تلك التي لا يخطئها الذوق..
35 قطعة حطب باردة هي كل رصيد الموسيقي النمساوي الموهوب فولفغانغ أمادوز موزارت من كيس عمر ما كان ليُشجعه على التقدم إلى الأمام بعد أن استخسرته فيه الأيام..
35 جمرة ما كانت إلا لتَجود على الملحِّن الطروب فولفغانغ أمادوز موزار بالكثير من الحصاد الفني الذي وعدت به أراضيه القاحلة، ومَن كان ليُصدق أن الموهبة الخلاقة ستخرج إلى النور لتعرف الحياة وعمر الفنان لم يتجاوز بعدُ ستّ سنوات؟!
بين فولفغانغ أمادوز موزار ووالده المرهف الإحساس بالموسيقى قصةُ حُبّ قَلَّ نظيره، حُبّ كان يَعد بالكثير من أمطار الخير التي ستَعم الصغير موزار، يكفي أن هذا الأب قد غرس في ابنه بذور العطاء الفني في ريعان طفولته، وهو ما جعل موزار يتعلق بالموسيقى، وبالقَدْر نفسه كان يزداد تعلقه بوالده الذي مثَّلَ له الأب الروحي الذي تَبَنَّى موهبته المشتعلة..
غير أن هذا التعلق الجامح كانت له آثار مؤلمة ومفجعة على موزار بعد أن توفي والده، ولا غرابة أن خسارة الأب خسارة كبرى قد تُرْبِك ترتيبَ كل الأوراق، بيد أنها من جانب آخر قد فَجَّرَتْ عالَم موزار الوجداني لينجح في تأليف أوبرا حزينة المعاني كان عنوانها «دون جيوفاني»..
من المؤكد أن فولفغانغ أمادوز موزار لا يختلف اثنان في أنه كان بارعا في تأليف النصوص والمقطوعات الموسيقية، وأكثر من هذا فإنه كان سيِّدَ أجواء الحفلات، ناهيك عن أنه كان سَبَّاقاً إلى فرض وجوده على المستوى الأوبيرالي الناجح بامتياز..
إبهار تجاوزَ الحدود عرفته موسيقى فولفغانغ أمادوز موزار، وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى انتمائه إلى عائلة موسيقية، هي عائلة جعلته يرضع حليب الموسيقى ويصقل ذائقته الفنية منذ نعومة أظافره..
لكن مَن يصدق أن المسكين موزار يَموت موت الجرذان حين يستفحل به المرض الدفين ذاك الذي كان يتآكل تحت وطأته هو المسكين، فإذا بجنازته يتخلف عنها من يزفها إلى مثواها الأخير سوى ستة أشخاص لم تكن منهم بالتأكيد زوجته كونستانس ويبرConstance Weber التي حالت بينها وبين جثة زوجها قسوة المناخ البارد ذاك الذي كان يؤجل اللقاء الأخير..
المناخ البارد تواطأ مع المرض مرة أخرى ضد رغبة زوجة فولفغانغ أمادوز موزار في مرافقته إلى بيته الأخير تحت الأرض، وهنا نفتح القوس على حكاية أخرى تتصبب ألما، ألا وهي العلة المرضية لزوجة الفنان الشهير تلك التي أدخلته في دوامة من الديون التي حكمت عليه بنهاية بائسة..
يَغيب الفنان الموسيقي والملحن فولفغانغ أمادوز موزار، لكن هيهات لشمسَه أن تَغيب بعد أن ترك صاحبُنا تاريخا مشرفا وأمجادا بالجملة، إنه التاريخ الحافل بالعطايا الفنية التي تسجل أكثر من علامة تعجب واستفهام عند النظر إلى موهبته تلك التي حكمَتْ بأن يتربع صاحبها على عرش التلحين وما كان قد تجاوز من العمر ستّ عشرة سنة..
هو ذا فولفغانغ أمادوز موزار العبقري الهارب من هشاشة الواقع إلى ساحة العبقرية، ولا غرابة أن يَذكر تاريخه أنه بدأ في تأليف الألحان وعمره أربع سنوات، بل كان متمكنا من الوقوف أمام الجمهور وعمره خمس سنوات..
المضحك دائما في تجربة فولفغانغ أمادوز موزار أنه كان في طفولته يصطاد الألحان ويلاحقها أينما كان كما يلاحق أقرانه ألفَراش الجميل ذاك الذي يأسر العين، بينما كان موزار يسقط في غواية الأذن..
ولا أحد قد يتصور أن حرارة العاطفة التي جمعت فولفغانغ أمادوز موزار بأبيه الفنان قد التهبت منذ طفولته الأولى، فبينما كان موزار يطارد الألحان، كان والده الفنان يسجلها حتى لا تَضيع..
فنان من طراز فولفغانغ أمادوز موزار، ورغم عمره الأقصر من رغبة في صعود سُلَّم النجاح، صال وجال، وجرب الترحال بين شتى البلدان، ومن ثمة طاب له أن يُعرِّفَ بنبوغه الموسيقي رغم أن سَوط الموت كان يترصده ليلتقط الروح المحلقة في سماوات النَّغَم..
تواطؤ السل والتيفوييد ضد إرادة الحياة جعل شمعة موزار تنطفئ شيئا فشيئا، وما أبشع الموت حين ينتشلك من بين أهلك وذويك لتجد نفسَك محمولا على نعش يقودك إلى آخرتك وقد تخلَّفْتَ عن قيامة صغيرة!
لا شيء، لا شيء في انتظارك يا مَلِكَ الشهرة الفنية وسلطان الذوق الموسيقي سوى حفرة، حفرة لا أكثر منها في انتظارك، وأين؟! في أرض جرداء تُتَّخَذُ مقبرة للفقراء..
صحيح أن الفقرَ يحكم عليك بحياة مع وقف التنفيذ، غير أنه لا ينبغي عليك أن تُنكر أنه الفقر نفسه ذاك الذي يُرَبِّي فيك الإحساس، ولولا الإحساس لما نبغ صُنَّاع الموسيقى والفن بشكل عام..
صَدِّقْ يا صديقَ أيامي الحلوة والمرة أنه المجد الذي يعود الفضل فيه إلى ضربتين:
- فإما أن تَكون الضربةُ ضربةَ فقر يمسح بك أرض الكرامة والكبرياء ويمرغك في وحل أَهْلِ الخُبث والجُبَناء، لكنها ضربة هي تنبعث منها أنفاس الحياة الفنية..
- وإما أن تَكون الضربة القاتلة ضربةَ الحُبّ الْمُحيِية لقلبك الميت ذاك الذي سرعان ما تنبت فيه ورود الإحساس بالموهبة التي تتفتق في لحظة فراق حالفة أن تُسَخِّرَ عصافير المشاعر لِتُشَيِّعَ جنازة القلب الذي قَتَلَه الركض واللهاث خلف السراب الجاثم في مدن الضباب..
مِن هنا تحية فنية مورِقة رهافة للكبير فولفغانغ أمادوز موزار، وكل 14 فبراير وأنتم بإحساس، بأنفاس موسيقية زكية، بذوق عاطفي، وبِحُبّ لا ينطفئ له ليل..
copy short url   نسخ
15/02/2020
1016