+ A
A -
سالم لبيض أكاديمي تونسي ووزير سابق
كان يوم العاشر من يناير الجاري مختلفا عن بقية الأيام في سجلات الطبقة السياسية التونسية وذاكرة فاعليها وفي المخيال السياسي الجمعي للتونسيين أجمعين، إذ شهد سقوط حكومة الكفاءات التونسية المستقلة التي شكّلها الحبيب الجملي بتكليف من حركة النهضة، الحزب الأول في الانتخابات التشريعية التي عرفتها تونس يوم 6 أكتوبر 2019، وهي سابقة أولى في التاريخ السياسي التونسي المعاصر أن يمتنع البرلمان عن منح الثقة للحكومة، وينهي بذلك تفويض التكليف الذي منحه الدستور للحزب أو الائتلاف الفائز والشرعية التي جاءت بها الانتخابات التشريعية.
نالت حكومة الجملي ثقة 72 نائبا ينتمون إلى حركة النهضة وتيار ائتلاف الكرامة، حديث العهد بالحياة السياسية التونسية، بينما عارضها ورفض منحها الثقة 134 نائبا يتوزّعون على كل من الكتلة الديمقراطية، وقلب تونس، والحزب الدستوري الحر، وتحيا تونس، والإصلاح، الوطني والمستقبل، ما يفيد بأن التشكيلة الحكومية حظيت بتأييد الحركة الإسلامية بشقيها في حركة النهضة وائتلاف الكرامة، وعارضتها بقية التيارات السياسية والأيديولوجية من قوميين عرب ويساريين ودستوريين وليبراليين وحقوقيين ونقابيين.
ولكن المفارقة التي بانت في الجلسة العامة للبرلمان التونسي، وأفصح عنها النقاش العام الذي استمر أكثر من تسع ساعات، في يوم مشهود وعاصف، عرف متابعة دقيقة من مختلف الفئات الاجتماعية والمشارب الفكرية ومراكز الفعل الاقتصادية والمالية ولوبيات النفوذ الداخلية والخارجية، وتغطية شاملة من الإذاعات والتلفزيونات المحلية والدولية والصحف الإلكترونية والصفحات الافتراضية الشديدة التأثير والانتشار، تمثلت في إفصاح الأمين العام لحركة النهضة، زياد العذاري، المستقيل حديثا من موقعه القيادي، ومن الخطط القيادية في حركته، عن رفضه إعطاء الثقة لحكومة أشرف على تشكيلها حزبه، وانتقاده بشدة رئيس الحكومة المكلف، ومقاربته في تكوين فريقه الوزاري، وهندسة الحكم المعتمدة، والبيان الحكومي المعروض على المجلس، ذاهبا إلى أبعد من ذلك، عندما أعلن أن الحبيب الجملي ليس الأكفأ لقيادة المرحلة وتولي رئاسة الحكومة التونسية، وهو أمر يمكن تفهمه بالنظر إلى أن العذاري كان يسوّق نفسه لدى «النهضة» والأطراف الدولية المالية والسياسية الفاعلة أنه الأجدر لتولي المهمة. ومع ذلك يمثل ما أقدم عليه خرقا خطيرا للانضباط التنظيمي الحديدي الذي ميّز تجربة حركة النهضة (الإسلامية)، منذ انبعاثها حزبا سياسيا قانونيا ومؤشرا له من الدولة التونسية، بعد انهيار نظام بن علي عشية 14 يناير 2014، واستبداله بالنظام الديمقراطي القائم على مبدأي التعدّد الحزبي والسياسي والتداول السلمي على السلطة. ولا يعتبر موقف العذاري مجرّد تمرد شخصي على سلطة رئيس الحركة راشد الغنوشي، بأي حال، وإنما هو مثالٌ لما يعتمل داخل «النهضة» من تبايناتٍ في المواقف، واختلافاتٍ في الرؤى، وتياراتٍ خفيةٍ متصارعة، ولعبة مصالح ونفوذ تقودها أرسطقراطيات وواجاهات حزبية وتعبيرات جهوية، نشأت في ظل تجربة الحكم ومزاياها، وترسّبات تاريخية مرجعها كيفية إدارة مرحلة الاستبداد والمتاهة، وتأثيراتها على الحركة الإسلامية التونسية واستتباعاتها اللاحقة في أزمنة تولي السلطة.
ويعد سقوط حكومة الجملي نتاجا للمقاربة السياسية التي اختارتها قيادة «النهضة»، بأن اعتبرت نتيجة الانتخابات كافيةً لتعطيها الأحقية في تشكيل الحكومة، بناء على ما ورد في الفقرة الأولى من الفصل 89 من الدستور التونسي. والحال أن تلك النتيجة وضعت «النهضة» في مأزقٍ سياسيٍّ حقيقي، اعتقد النهضويون أنهم قادرون على الالتفاف عليه وتجاوزه بأقل الأضرار، وبالأسلوب السياسي نفسه وطرق المناورة التي اعتمدوها في تشكيلهم حكومتي الترويكا (2011-2014)، وتكوين حكومة التكنوقراط برئاسة مهدي جمعة، ثم حكومات الحبيب الصيد ويوسف الشاهد (2015-2019).
وقد اتصف أسلوب حركة النهضة في الفترة الأولى بالهيمنة على المشهد الحكومي، وتجميله ببعض الشخصيات الوطنية والتشكيلات الحزبية (حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات).
(يتبع)
{ عن «العربي الجديد»
copy short url   نسخ
18/01/2020
471