+ A
A -
سمير الزبن كاتب وروائي فلسطيني
طرحت الثورات العربية أسئلة لم تكن لتطرح قبلها. وبصرف النظر عن مآلاتها، زلزلت الثقافة العربية السائدة، لكن مستوى النقاش بشأن قضايا كثيرة يعيد الجميع إلى الطريقة المتخشبة في النقاش التي سادت قبل الثورات العربية، وما زلنا نعالج القضايا بالطريقة نفسها. وهو ما يجعل المرء واثقاً من أن الثورات العربية كانت فعلا سياسيا عظيما على الأرض من الجموع المحتجة والثائرة، لكنها لم تملك بعد الخطاب الذي يعبر عنها، ولا عن قيمها، حتى بين مؤيديها. وتدعو هذه الحالة إلى التأمل مرة أخرى في انفصام الواقع العربي على الخطاب السائد.
مع الثورات العربية حدث العكس، جاءت الثورات فعلا سياسيا عظيما، هزَّ المنطقة، وأطاح رؤساء، وأظهر قوة الناس المظلومة، عندما تطالب بحقوقها وحريتها، لكن هذا الحدث العظيم لم يملك لا خطابه السياسي الموازي للحدث، ولا حتى خطابه القيمي بالحرية والعدالة.
ليس ذلك على مستوى الخطاب العام فحسب، بل يُرى أيضا في كثير من تفاصيل النقاشات التي تدور، ليس بين مؤيدي الثورات العربية ومنكريها فحسب، بل أحيانا بين مؤيدي الثورات العربية في ما بينهم أيضاً.
النقاش بين مؤيدي الثورات ومؤيدي الأنظمة، الذين يقوم خطابهم على أن الأنظمة في موقع
الضحية نتيجة مؤامرة خارجية، أميركية، إسرائيلية، غربية... إلخ. ولكن المدافع عن الأنظمة لا يريد أن يرى الأنظمة التي تدّعي مواجهة المؤامرة تخوض الحرب ضد شعبها بالقتل والتنكيل به وهدم منازله، ولا تخوض حربها ضد الدول المتآمرة. طبعاً النقاش مع مؤيدي الأنظمة نافل، ولا معنى له. ليس بمعنى عدم القدرة على الوصول إلى نتائج في النقاش فحسب، وليس لأن لدى هؤلاء مصالح مع الأنظمة. هناك كثيرون ممن يحملون هذه القناعة، لا مصالح لهم مع الأنظمة، حتى أن كثيرين منهم قد تضرّروا منها. بل لأن النقاش ينطلق من موقعين مختلفين، ومن مفهومين للقيم الناظمة، بالنظر إلى الإنسان ومكانته وموقعه بالنسبة لسياسة البلد. إذا كنت ترى أن كل القيم تدور حول الإنسان، فإنك لن تكون مع قتل الشعب بهذه الوحشية، حتى لو كان هناك فعلاً مؤامرة خارجية، فمؤامراتٌ كهذه في جميع الحالات لا تتم مواجهتها بتخريب الأوطان بشكلٍ يفوق التصور. وأعتقد أنه لو تم تكليف الدول التي يُفترض أنها تتآمر على البلد بتخريبه، لما قامت بتخريبها بالمستوى والعمق الذي خرّبته الأنظمة المستبدّة التي دمرت بلادها من أجل التمسّك في السلطة. أما عندما لا ترى أن القيم تدور حول الإنسان، إنما حول القضايا، وليس الإنسان سوى وقود لمعركة هذه القضايا، فعند ذلك يمكن أن تقبل أن يذبح النظام شعبه بذريعة أنه يتصدّى لأميركا ولإسرائيل، في وقتٍ لا يقوم فيه بأي فعل ضد هؤلاء، ولكنه لا يتورّع عن استخدام كل ترسانته العسكرية في قتل شعبه، وذلك كله من أجل التصدّي للمؤامرة الخارجية، فالقضايا الكبرى تحتاج تضحية، فأن يقتل الملايين من أجل القضايا الكبرى هذه مفخرة، فحتى لو قتل كل الشعب، فهذا ليس مهماً، ذلك كله فداء للمواجهة الكبرى مع الولايات المتحدة وإسرائيل، الأهم أن يبقى النظام الممانع، وخصوصاً رأسه.لا فائدة من النقاش مع معادي الثورات العربية أو مؤيدي الأنظمة، فهؤلاء في عالم لا يمكن إخراجهم منه، لأنهم يعتقدون أنهم يخوضون حروب الأمة في مواجهة أعدائها، ومن يخوض الحرب يستخدم الأسلحة لا الكلام، لذلك هم يستبيحون دم الجميع ويحرّضون على المختلفين معهم بالقتل، لأنهم يعتبرونهم خونة.
(يتبع)
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
14/01/2020
111