+ A
A -
أنور الجمعاوي أستاذ وباحث جامعي تونسي
أعني بالثورة الثقافية تشكّل وعي جمعي عربي جديد، يقطع مع منظومة مفاهيم تقليديّة، ومناهج كلاسيكية، وممارسات قديمة، ويؤسّس لتصوّرات حديثة، وأفكار مبتكرة، ومناويل مستجدّة في إدارة العمران والفعل في الشأن العام. وتحمل الثورة الثقافية طيّها كثافة في التفكير ورغبة جامحة في التغيير، وهي ذات طاقة تأثيرية بالغة من جهة أنّها لا تقف عند مخاطبة عقول النّاس ووجدانهم. بل تتجاوز ذلك إلى التأثير في السلوك الجمعي، وتوجيهه وجهات بنائية /‏‏ تعبيرية/‏‏ وجودية مخصوصة. والمتابع للموجة الثانية من الحراك الاحتجاجي العربي يتبيّن أنّها ليست مجرّد عفوية عابرة، ولا هي حالة انفجار انفعالي حيني. بل هي حالة وعي احتجاجي يحمل طيّه بوادر ثورة ثقافية عارمة. ويمكن عمليّا رصد ثلاثة ملامح بارزة لازمت الحراك الاحتجاجي، ودلّت على ظهور ثورة ثقافية في سياق عربي: الحرص الشعبي على تسمية الحالة الاحتجاجية ثورة، صعود فكرة المواطنة، لزوم السلمية المستدامة.
يحرص محتجّون في السودان، كما في الجزائر، وفي لبنان كما في العراق، على تسمية حراكهم الاحتجاجي ثورة، ويردّدون هذه التسمية في شعاراتهم، وفي أهازيجهم وبياناتهم. وبدا لافتا أنّ فنّانين لبنانيين محترفين، مناصرين للتظاهرات المطالبة بالتغيير، صنعوا مجسّما معبّرا عدّوه رمزا للثورة، وسمّوه «قبضة الثورة»، ونصبوه في ساحة الشهداء، وسط بيروت. وأقدم فوضويون مجهولون على إحراقه يوم عيد الاستقلال، ولكنّ المؤيّدين للاحتجاج أعادوا رسمه ونصْبه. وهم يهتفون «ثورة.. ثورة». وكذا ردّد سودانيون «حرّية سلام عدالة والثورة خيار الشعب»، ورفع جزائريون وعراقيون شعار «إنّها ثورة حتّى النّصر». وتنادى آلاف المتظاهرين في بلاد العرب «ثوّار، أحرار، حنكمل المشوار». ويرفض المحتجّون تسمية حراكهم انتفاضة أو هبّة أو انفجارا. بل يصرّون على تسميته ثورة، لأنّهم يدركون أنّ الثورة أشمل وأعمق من غيرها من التسميات.
ولأنّهم يعلمون أنّها ليست فعلا عابرا، ولا عملا انفعاليا حينيّا، بل هي حركة تغييرية شاملة، تنسجم مع أشواق المحتجّين إلى تغيير طبقة سياسية تقليدية مهترئة، وتجديد هياكل الدولة، وعصرنة الخدمات، ومكافحة البيروقراطية، والفساد، والاستبداد، والتوزيع غير العادل للنفوذ والثروة، والتأسيس بدل ذلك لدولة مدنية، تعدّدية عادلة، ضامنة للحرّيات.
copy short url   نسخ
08/12/2019
225