+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب أردني
عن جدارة، نال الاستبداد العربي صفة «حارس البوابة» التي طورها لاحقا ليتسلل إلى المضامين التي يقوم عليها الوعي الجمعي للعرب. فعبر تاريخه الحافل بالدم، برع الاستبداد العربي بإغلاق كل منفذ قد يشكل اختراقا لهيمنته السياسية، التي حولت حقوق الناس في الحريات والعيش الآدمي إلى منّة توجب المديح وكيل الثناء الفارغ، يحدث هذا في القرن الحادي والعشرين العاصف بالمعرفة، وسيظل يتبختر الاستبداد بهيلمانه وهو يزهو بأنه إنما يستجيب لمقتضيات العصر.
يستثمر المستبد معارف العصر وتقنياته المتطورة لإطالة عمر استبداده الذي يتكيف مع العصر كحرباء تتقن الاختباء.
يستورد الاستبداد العربي من الغرب الرأسمالي آخر صيحات تكنولوجيا الاتصال التي يعتقد أنها ستمنحه مساحات إضافية لإدامة قبضته على الوعي العام، وهو لا يهمه أو لا يقيم كثير اعتبار لسيل النقد الذي يوجه اليه في بلدان الغرب، خصوصا تلك التي تزوده باكثر وسائل القمع نجاعة في مطاردة الوعي الايجابي للواقع العربي.
يتعايش الاستبداد مع التطور العلمي والتقني، الذي يجده مساحة لإحكام قبضته التي يتراءى لكثير من الأوساط انها تراخت قليلا، فيما هي في الواقع تجدد نفسها، وتطور أدواتها لتواصل سيرتها الأولى التي تتعقد مع مضي عجلة التطور التقني.
فنظرية «حارس البوابة» في الإعلام كان الاستبداد يطبقها ويتفنن في ممارستها منذ أن شب واصبح هو الآمر الناهي في المساحة الجغرافية التي يسير أمورها، قيّد الاستبداد العقل والمعرفة وكل نتاجاتهما، وأصغى لنداء مصالحه وجشعه فركب موجات التغيير الاجتماعي وحتميتها، حتى تماهى معها تماما، لم تفلت من يده ورقابته كل نأمة يصدرها المجتمع، خصوصا لدى النخبة المستنيرة، حتى وإن كانت محسوبة عليه.
وحين دلف العالم إلى العصر الحديث، وصار جديده السياسي والاجتماعي، لازمة للتقليد، ابتكر الاستبداد العربي طرقا ملتوية لتحريف مضامين التطور وانعكاساتها عيانيا، ليقول للعالم وللمجتمع في الداخل انه انما يتناغم مع العصر الحديث، أدخل الاستبداد في هذا الخضم تحديثات على شكل دولته التي صارت ببرلمان منتخب شكليا وهيئات تلك السائدة في الدولة الغربية، اتبع الاستبداد سياسته في مسخ الوعي العام بإيجاد أطر سياسية تحمل مسميات لا علاقة لها بتلك التي كانت لازمة في تطور الدولة الأمة الغربية.
منع الاستبداد العربي عموما إطلاق يد المجتمع وقواه الاقتصادية، لئلا تبلغ حرية الإنتاج الكمي لحظة تتحول فيها نوعيا، فتذهب إلى تطويع البحث العلمي وتسخره في خدمة فكرتها وطموحاتها في بناء دولة جديدة لا تحمل أهداف الاستبداد العربي القديم في شكله وأدوات حكمه.
وفي معمعان صراعه ضد التغيير، فتح الاستبداد العربي الأبواب على مصاريعها، للاستيراد من الدول الاستعمارية التي تمده لحظيا بأسباب بقائه، ولأن الشركات هي التي تهيمن على الدولة الغربية، فإنه من نافل القول التأكيد على أن مصلحتها الاستراتيجية ترتبط ارتباطا وثيقا بإطالة امد الحكم الاستبدادي، كل هذا يمارس منذ رحيل الاستعمار بصيغتيه الانجليزية والفرنسية القديمتين، أي انه المستعمر القديم خرج من البوابة وعاد من الشباك ليمارس دور الحارس الخفي؛ لإبقاء الأوضاع في مصلحة ركائزه القديمة.
نسمع كثيرا، ان هذا البرلمان أو ذاك في الدولة الغربية وجه سهام نقده إلى ممارسات فجّة لا يستطيع الاستبداد العربي ان يتخلى عنها، ويجري التسليط الإعلامي على هذه الانتقادات التي عادة ما تتصف باللسان السليط في وصف الاستبداد، لكن الذي لا يراه الجمهور المستهدف في هذا الإعلام هو ان كل ذلك محض ذر للرماد في العيون؛ لئلا تنكشف حقيقة انه ما كان للاستبداد العربي ان يقدم على هذه الممارسات الفجّة، لولا التبني الكامل لنهجه في مراكز صنع القرار الغربية.
باختصار شديد، يقول لنا في كل لحظة: كان تاريخكم استبداديا وسيبقى، ما دمنا نمده بأسباب القوة والمنعة وإن بلسان ملتبس!
copy short url   نسخ
06/12/2019
290