+ A
A -
كمال عبد اللطيف أكاديمي وكاتب مغربي
نواجه في المشهد السياسي العربي والدولي جملةً من القضايا المرتبطة بتحوُّلات القيم في عالمنا، حيث تتضاعف مظاهر الصراع والعنف، وتغيب الحدود الدنيا للحوار والتعاون التي يتطلَّبها العيش المشترك في عالم متعدِّد.
الأمر الذي يدفع إلى التفكير مجدَّداً في علاقة السياسة بالأخلاق، وما يجري أمامنا اليوم في العالم العربي، وفي مناطق عديدة، يبرز، بوضوح، صور الخلل وأشكال الدمار التي أصبحت يومية ومألوفة.. نعيش اليوم في عالمٍ تهدّده تحدّياتٌ تقنيةٌ ومجابهاتٌ ثقافيةٌ منتجة لاستقطابات سياسية حادّة. من هنا تأتي الحاجة إلى ضرورة بناء منظومة أخلاقية كونية، أي جملة من القيم والمبادئ المواكبة في روحها العامة لمختلف التحوُّلات التي يعرفها عصرنا. لا يتعلق الأمر بتركيب مدونةٍ بديلةٍ لميراث الفكر الأخلاقي الديني والفلسفي والاجتماعي في الثقافات الإنسانية، قدر ما يتعلق بمسعىً يروم ضبط القواسم المشتركة بين المجتمعات في مجال القيم، في ضوء مستلزمات التحول الجارية.
وإذا كان المنخرطون في العمل السياسي لا يتردّدون في القول إنهم يمارسون عملهم انطلاقاً من مبادئ وضوابط أخلاقية، حيث يصرحون بذلك، وهم على بيِّنة بأن الانخراط في العمل السياسي يدفع أحياناً إلى القيام بما يمكن اعتبارها، في نظر الخصوم، تجاوزات في المستوى الأخلاقي، وفي مستوى الغائيات الناظمة لمتطلبات التعايُش والتساكُن داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات.
التناقضات التي تملأ اليوم المحيط السياسي العربي مشرقاً ومغرباً، وتعطل سياسات التنمية في مجتمعاتنا، تعود، في بعض جوانبها، إلى استبعاد البعد الأخلاقي، حيث يَعُمُّ الفساد وتستشري الممارسات التي لا تقيم أدنى اعتبار لروح التوافقات التي بنيت في إطارها المجتمعات الإنسانية، الأمر الذي يعيدنا إلى حالاتٍ من الفوضى والبؤس. وإذا كنا نعرف أن المبادئ الأخلاقية الكبرى، كما تبلورت في الحكمة الدينية والمنظومات الأخلاقية في التاريخ، تندرج ضمن شبكات القيم المتحوِّلة في ترابُطها وتفاعلها مع متطلبات الصراع المتزامنة معها، كما تندرج في سياق صيرورة التاريخ في أبعادها المتعدّدة، حيث يصبح سؤال علاقة الأخلاق بالسياسة مرتبطاً، في الأساس، بمقتضيات إعادة بناء مدوَّنات الأخلاق، في ضوء تحولات القيم في التاريخ، فقد كانت منظومة القيم التي بناها الإنسان، وأعاد بناءها، بأشكال وصور مختلفة طوال تاريخه، تنشأ وتتطور لمجابهة التحدّيات التي تفرزها أوجه التحول والتطور التي حصلت في التاريخ. ومعلومٌ أن منظومات القيم تضيق نتيجة التحوّلات الصانعة لوقائع جديدة، كما تضيق أيضاً في علاقتها بالمدوّنات القانونية، حيث يتطلب الأمر إنجاز عملياتٍ في المواءمة والتجديد والتطوير، لضبط مسيرة التحوّل في علاقاتها بمنظومة القيم.
استوعبت الممارسة السياسية في عالمنا مكاسب الفلسفة السياسية الحديثة ودروسها، المتمثلة في ضرورة فصل السياسة عن الطوبى، مقابل الانخراط في بناء القيم المتصلة بآدمية الإنسان في أبعادها المتناقضة والمركَّبة. وقد ساهمت الفلسفات الأخلاقية الحديثة في بناء جملة من المبادئ التي تنفر من قيم التعالي الكنسية والطوباوية. ولم يترتب عن النفور المذكور استبعاد الأخلاق من العمل السياسي، بل بناء نظرٍ أخلاقي جديد ومكافئ لمجمل التحولات الجارية في عالمنا، فازدادت المسألة الأخلاقية أهميةً، وذلك بحكم اهتمامها بقضايا التقدم والتعايش والتنمية، في عالم مليء بالتناقضات وأشكال الصراع الجديدة والمتوارثة.
اتِّساع الشقة القائمة بين السياسة والأخلاق في عالمنا، والتحول الذي يعرفه اليوم مجال كل منهما، يدفعنا إلى مواصلة التفكير في بناء ما يمكن أن يطلق عليه مدونات الأخلاق الإجرائية، أي المبادئ الأخلاقية الواضحة والبسيطة والمؤسسة على مقتضيات التَّسَاكُن والتعايُش، من أجل العناية بقضايا محدَّدة في المجالين، الاجتماعي والسياسي.
من قَبِيل التفكير في الأخلاق المرتبطة بمدوَّنات حقوق الإنسان، وأخلاق الأطوار الانتقالية في التاريخ، وكذا أخلاق الثورة التكنولوجية، والتواصل في الوسائط الاجتماعية.. إلخ، ففي مختلف المجالات المشار إليها على سبيل التمثيل، تحضر جوانب من أسئلة المجال السياسي، وهي تدعونا إلى الانخراط في عمليات تركيب جملة من المدونات الأخلاقية المطابقة للتطلعات المرتبطة بها، والمرتبطة، أيضاً، بالأدوار المنتظرة منها كذلك داخل المجتمع.
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
06/12/2019
659