+ A
A -
أنور الجمعاوي أستاذ وباحث جامعي تونسي
نشهد سنة 2019 ظهور جيل جديد من المحتجّين، يتحلّل من الأطر التنظيمية التقليدية، ويأبى الخضوع لقائد مُعيّن أو لجماعة محدّدة، فالمحتجّ يُعبّر عن وجوده باعتباره مواطنا حُرّا، يملك قراره، وباعتباره فاعلا مدنيّا، سيّد نفسه، يمارس حقّه في التفكير، والتعبير، والاحتجاج، وحقّه في أن يقول: «لا للمنظومة القائمة» وجلّى ذلك قول متظاهر لبناني على شاشة التليفزيون: «نحن لسنا جيل أحزاب، نحن لسنا جيل طوائف، نحن قادة ولسنا أتباعا، We are leaders، نحن شعب مثقّف يُمكن أن نحكم حالْنا بحالْنا». وفي ذلك دلالة على صعود موجة وعي مواطني، مسؤول، وعي جمعي، لا يثق في النّخب السّائدة، ولا بالوجوه القديمة لفسادها ولسوء إدارتها البلد.
ويطمح الجيل الجديد من المحتجّين إلى نقض الموجود، والتأسيس للمنشود، وله استراتيجيّات مخصوصة، وأهداف معلومة.
من الناحية الاستراتيجية، عوّل المحتجّون في عدة دول على وحدة الصّف الثوري وتماسكه لتحقيق التغيير المنشود، فاستراتيجية رصّ الصّفوف من أجل الصّالح العام، والاجتماع تحت راية الوطن، ورفض دعاوى الزعامتيّة، والحزبوية، والطائفية، والتمثيلية المجتزأة، والبحث بدل ذلك عن عوامل التآلف، ودرء أسباب ألفُرقة والفتنة، ساهم ذلك كله في تشكّل وحدة احتجاجية شعبيّة صمّاء، صَعُب على النّظام الحاكم اختراقها. وتحوّلت تلك الوحدة على التدريج إلى كتلة تاريخية ضاغطة على الطبقة السياسية التقليدية (الحاكمة والمعارضة)، ودفعتها إلى التكيّف مع الحراك الاحتجاجي، إمّا بتأييده أو الاستجابة لمطالبه بصفة مرحلية/‏ تدريجية. واعتمد المحتجّون في هذا السياق استراتيجية «خُذ وطالِب»، فكان يتمّ تحصيل مكسب ما والمرور مباشرة لتحقيق المطلب الذي يليه. ففي الجزائر، انتقل المحتجّون من المطالبة بعدم التمديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى المطالبة بتنحيته، فالدعوة إلى محاكمة رموز الفساد المحيطين به، والمطالبة بتشكيل هيئة مستقلّة للانتخابات، وتأمين تنافس سلمي ديمقراطي على السلطة. وفي السودان، أدّى ضغط الكتلة الاحتجاجية إلى الانتقال من مطلب «تسقط بس» إلى المطالبة بمحاكمة الفاسدين وأعوان الدكتاتورية، فالتراقي إلى تقاسم السلطة بين مدنيين وعسكريين. ودفع الضغط الاحتجاجي في لبنان أصحاب القرار إلى التراجع عن الترفيع في الضرائب، وأدّى إلى استقالة حكومة سعد الحريري، وحال دون تمرير قانون عفو عام يؤمّن إفلات سياسيين مُفسدين من العقاب. ولم يقف المحتجّون عند ذلك، بل طالبوا بمحاكمة ناهبي المال العام، ورابطوا بالقرب من منازلهم، وتشبثوا بمطلب حكومة تكنوقراط. وفي العراق، أدّى الضغط الاحتجاجي إلى اصطفاف مراجع دينية وقادة أحزاب سياسية إلى جانب المحتجّين، ودفع الحكومة إلى الإعلان عن حزمة إصلاحاتٍ، وتلويحها بإمكان الاستقالة وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها. ومن ثمّة، مكّنت وحدة الصف الثوري من تحقيق مكاسب معتبرة، وكرّست امتداد إرادة الشعب في مقابل انحسار نفوذ الطبقة السياسية، السلطوية التقليدية. وامتاز حراك 2019 في هذا الخصوص عن الموجة الاحتجاجية سنة 2011 التي شهدت اختراق خلايا النظام السلطوي الصفَّ الثوري في عدة بلدان، وأدّى ذلك إلى بعثرة مشروع التغيير السياسي والانتقال الديمقراطي في تلك البلدان. وفي سياق متّصل، استثمر المحتجّون الجُدد سنة 2019 في استراتيجية استقراب الجيش، ولزوم السلمية، ورفضوا الانزلاق إلى مهواة العنف، على الرغم مما عانوه من غطرسة الأجهزة الأمنية والمليشيات الموالية للنّظام، خصوصا في السودان والعراق. وساهم ذلك في حماية الممتلكات العامّة والخاصّة، وزاد من التفاف النّاس في الداخل والخارج حول الحراك الاحتجاجي الذي لم ينجح فوضويون في تشتيته، وتشويهه، وتقويضه، وذلك راجعٌ إلى تماسك كتلة المُحتجّين، وسلميّة حراكهم ونُبل أهدافهم.
وأهداف المحتجّين في بلاد العرب سنة 2019 واضحة، وليست خلافية، بل هي مدار إجماع معظم الجمهور الثائر، وتتعلّق أساسا بتغيير الطبقة السياسية القديمة المهيمنة على الشأن العام منذ سنوات بل منذ عقود، ووضع حدّ لمعضلة التوريث السياسي، وظاهرة المحاصصة الحزبيّة والطائفية، وتحسين الوضع المعيشي للنّاس، ومكافحة الفساد والإفلات من العقاب، وتأسيس دولة مدنية لا عسكرية، حقيقيّة لا شكليّة، تامّة الأركان، تضمن للمواطنين الكرامة، والحرّية، والعدالة، والرّفاه، وتكافؤ الفرص.
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
28/11/2019
810