+ A
A -
ثمة قواسم مشتركة بين لبنان والعراق، وهو ما ظهر جليَاً من خلال المطالب التي حملها المتظاهرون خلال الاحتجاجات في الشارعين اللبناني والعراقي. وإلى جانب الاستياء العميق تجاه الطبقة الحاكمة والظروف الاقتصادية الصعبة والفساد، تقف الطائفية على قمة أولويات ما يجب إزاحته من المشهد في كلا البلدين. بيد أنه يبدو أن الاحتجاجات في العراق أخذت منحى أكثر عنفاً مقارنة بمثيلتها في لبنان، حيث ظلت الاحتجاجات سلمية إلى حد كبير. وحرص المتظاهرون على رفع أعلام الدولة والابتعاد عن الشعارات الحزبية والطائفية في اتجاه التغلب على الحدود الطائفية التي مزقت البلد، غير أن ما حدث خلال الاشتباكات الأخيرة بين متظاهرين معارضين للحكومة ومؤيدين لحزب الله وحركة أمل، دفع مراقبين ومحللين إلى التساؤل، هل يحدث الآن العكس؟
ففي الساعات الأولى من صباح يوم الإثنين أظهر بث مباشر على محطات تلفزيونية لبنانية اشتباكات بين متظاهرين معارضين للحكومة ومؤيدين لحركتي حزب الله وأمل الشيعيتين بالعاصمة اللبنانية بيروت. وذلك بعدما زاد التوتر بين الطرفين عندما أغلق المتظاهرون جسراً رئيسيا بوسط المدينة. واتهم المتظاهرون المعارضون مؤيدي الحركتين الشيعيين باقتحام ساحات الاعتصام والاعتداء عليهم.
كما ذكرت ثلاث محطات تلفزيونية محلية أن قوات الأمن أطلقت الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود. ولوح أنصار حزب الله وحركة أمل بأعلام الحركتين ورددوا قائلين «شيعة شيعة» وكذلك شعارات مؤيدة للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. وعلى الجانب الآخر، ردد المتظاهرون قائلين «ثورة ثورة».
تصاعدت الاستفزازات من الجانبين وتعرضت عشرات السيارات والمحلات التجارية للتخريب. كما ذكرت الوكالة الوطنية للأنباء في لبنان أن الاشتباكات بين أنصار رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري وحركتي حزب الله وأمل تطورت إلى إطلاق نار في بيروت. وذكر الدفاع المدني اللبناني على حسابه بموقع «تويتر» أن عشرة جرحى هي حصيلة التظاهرات الاحتجاجية التي حصلت في ساحة رياض الصلح وجسر فؤاد شهاب في بيروت.
من جانبه دعا مجلس الأمن الدولي في بيان إلى الحفاظ على «الطابع السلمي للاحتجاجات» في لبنان. وطلب من جميع الأطراف الفاعلة إجراء حوار وطني مكثف واحترام الحق في الاحتجاج من خلال التجمع بشكل سلمي.
في الاتجاه غير السلمي
التصعيد غير المسبوق الذي شهدته الاحتجاجات في لبنان، وظلت سلمية إلى حد كبير، أثار موجة غضب لدى اللبنانيين، كما انعكس ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي. وعبر عدد من اللبنانيين عن استيائهم من ما حدث، بعد الطابع السلمي الذي اتسمت به الاحتجاجات، كما كتب مغرد يعرف عن نفسه بـ Mhmd على حسابه الخاص على موقع «تويتر».
من ناحية أخرى احتفظ عدد من اللبنانيين بالأمل في تجاوز هذا التصعيد الأخير، الذي لم يتسبب سوى بـ «الكره»، كما كتب الإعلامي اللبناني طاهر بركة في تغريد على حسابه على موقع «تويتر»، والتي قال فيها: «ربما من السهل قمع تظاهرة واحدة، ولكن من المستحيل قمع ثورة كاملة».
في المقابل يرى مراقبون أن هذه الاشتباكات قد تنذر بتحويل الاحتجاجات التي يغلب عليها الطابع السلمي إلى منحى دموي، كما حدث خلال احتجاجات العراق، غير أن للكاتب الصحفي، محمد قواص، نظرة تحليلية أخرى، كما عبر عنها في حوار مع دويتشه فيله عربية: «الاحتجاجات في لبنان قد تذهب في الاتجاه غير السلمي، لكن لن تصل للشكل الدموي. من يملك قرار أن يبقى الحراك سلمياً أو أن يُقابل بأعمال شغب هو حزب الله، لأنه من يملك السلاح في لبنان وبالتالي القرار بيده، ومع ذلك لا أعتقد أن هذا الحراك بإمكانه أن يذهب إلى العنف على الطريقة العراقية».
ويضيف قواص أن السبب في ذلك يعود إلى أن طبيعة لبنان تختلف، إذ إن هناك 18 طائفة في لبنان بينما يبدو الحراك في العراق «شيعيا شيعيا وأن حزب الله بطبيعته الطائفية لا يمكن أن يجابه كل الطوائف في لبنان». ويضيف الكاتب الصحفي، المقيم في لندن: «أعتقد أن حزب الله لو أراد أن يذهب بالتصعيد إلى منحى عسكري، لكان ذهب كما حدث في السابع من مايو عام 2008 باستخدامه السلاح لكنه يحاول الضغط من خلال حراك جمهوره ضد الجمهور الاحتجاجي المعارض ولا أعتقد أن الصراع سيتحول إلى شكل دموي خطير».
من جانبه يرى يواخيم باول، مدير مكتب مؤسسة هاينريش بول في بيروت، أن المشهد في لبنان يختلف عن باقي البلدان الأخرى التي شهدت الربيع العربي: «في لبنان هناك حرية التعبير وحرية الصحافة والتحدث علانية دون أن تُسجن على الفور كما كان الحال في تلك البلدان. لكن يبقى من الصعب الإجابة عن كيف يمكن أن تسير الأمور في هذا البلد، لأنه يشهد نوعاً من الجمود السياسي».
ويضيف باول قائلا إن «حزب الله، بالإضافة إلى القوى السياسية الأخرى، وعلى رأسها حركة أمل، ذات الخلفية الشيعية وكذلك الحزب الرئاسي (حزب الرئيس ميشال عون) ليست مهتمة بالاستجابة بأي شكل من الأشكال لمطالب المتظاهرين الذين يطالبون بتشكيل حكومة تكنوقراط لا يتم فيها تمثيل النخب السياسية الحالية والآن وصل لبنان إلى طريق مسدود».
نهاية حلم تجاوز الطائفية
ويرى يواخيم باول أن للطائفية دورا كبيرا في لبنان على جميع المستويات وفي جميع المجالات. وأنه في حين يسعى البعض نحو مجتمع أكثر انفتاحا حيث يتم التغلب فيه على الطائفية خطوة بخطوة، ترى الحركات والأحزاب السياسية القائمة الأخرى في الطائفية «ضمانا لها للاحتفاظ بنفوذها السياسي».
ويبقى التساؤل الأخير حول ما إن كانت الاشتباكات الأخيرة ستكتب نهاية حلم تجاوز الطائفية الذي كان على قمة أولوليات ما يجب إزاحته من المشهد خلال الاحتجاجات؟
يقول قواص: «لا أحد لديه أوهام بأن هذا الحراك بالذات بإمكانه أن يشكل فاصلة كبرى لتجاوز الطائفية في لبنان، لكنه كان بإمكانه أن يضع المدماك الأول على طريق ما هو مسجل في الدستور واتفاق الطائف من إجراءات لتجاوز الطائفية. ما جرى في لبنان هو لحظة تاريخية لم يشهدها البلد منذ استقلاله بحيث إن كل المدن وكل الطوائف والمذاهب تتحدث بلغة واحدة ضد سلطة واحدة في محاولة لفرض معايير جديدة لإقامة جمهورية تتجاوز الطائفية».
ويضيف الكاتب الصحفي: «لا أعتقد أننا تجاوزنا هذا الحلم، لكن الذهاب إلى هذا الهدف سيتم من خلال مراحل وأننا حاليا مازلنا في المراحل الأولى...أعتقد أن هناك شيئا كبيرا حصل في هذا البلد وأن النظام السياسي برمته وأصحاب هذا النظام أدركوا تماماً حجم هذه التحولات التي أنتجها المجتمع اللبناني».
لقد أصر حزب الله منذ اللحظات الأولى للثورة الشعبية المنتفضة على الطبقة السياسية والتي يمثل الحزب أحد أبرز أركانها، على شيطنة هذا الحراك ومحاولة تصويره على أنه جزء من المؤامرة الأميركية لضرب المقاومة، متهماً الحراك بالعمالة للسفارات والدول حيناً وحيناً آخر بتدخلات حزبية وتأثيرات خصوم الحزب عليه، وما خطاب نصرالله الأول عقب انطلاق عجلة الثورة إلا تأكيد على هذا النهج في التعاطي مع الحدث.
فنصرالله، ومنذ اللحظات الأولى شدد على أن الشارع قد يجر شارعاً آخر يرفض مطالب إسقاط عهد سعى الحزب بشكل كبير لصعوده، على الرغم من ملاحظات حول الأداء العام لحليف حزب الله الأول أي وزير الخارجية جبران باسيل والذي خلق عامل استفزاز مستمر لكل الساحات والتوجهات السياسية والمدنية.
يريد الحزب أن يحاسب الشارع الرافض للطائفية والذي يئن منذ سنوات لانقطاع الكهرباء والمفزوع من تدهور العملة والمصدوم من فرض ضريبة على الواتساب، بينما يصبر صبراً جميلاً على استفزازات وتعطيلات حليفه جبران باسيل الذي لا يخفي أقرب حلفاء الحزب نبيه بري امتعاضه منه.
ولكن من أين جاء للحزب أن الحراك مخترق أميركياً؟
يمثل خطاب محور المقاومة بشكل إرادي أو لا إرادي بوصم أي تحرك ضد المحور بأنه مدعوم أمريكياً، فثورة يناير التي قامت ضد نظام مبارك الذي كانت علاقته بمصر سيئة ثورة وطنية قومية خرجت ضد كامب ديفيد أما ثورة سوريا التي اُستهلمت من الثورة المصرية هي ثورة عميلة ممولة أميركياً.
وهذا ينطبق على الوضع في لبنان.
يفسر مصدر مقرب من حزب الله سبب مخاوف الحزب من اختراق الحصار اللبناني قائلاً إن عدم وجود أداء موحد لهذا الحراك وعدم جعله أداة واحدة صلبة سيتيح إما دخول عوامل سياسية وإما دخول عوامل شخصية ومنفعية.
ويضيف قائلاً يترافق هذا مع الجهود المستمرة لتشكيل حكومة تكنوقراط يراد استبعاد الحزب منها بشكل واضح وهذا ما بات مطلب قوى سياسية.
ويشير المصدر إلى أن أزمة تشكيل حكومة خرجت من كونها مادة للتجاذب السياسي المحلي وباتت أداة في نادي التدخل الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ويرى أن زيارتي الموفدين البريطاني وقبله الفرنسي واللذين حطا رحالهما في بيروت ترافقتا مع تصريحات السفير الأميركي السابق ببيروت جيفري فيلتمان أمام الكونغرس التي هاجم فيها نفوذ حزب الله في لبنان.
وكل هذه مؤشرات على أن الحراك بات ببعض مفاصله أداة ضغط على جزء كبير من اللبنانيين، حسب المصدر المقرب من الحزب.
قطع الطرق خط أحمر، فهل قرر حزب الله اللجوء للقوة لفض مظاهرات الحراك اللبناني؟
وقال المصدر إن قطع الطرقات المستمر كان نتيجته أمس وفاة شخصين على أوتوستراد الجية.
وشدد أنه لن يتم السكوت عن قطع الطرق بعد الآن وسيتم التعامل معه بقسوة، وخاصة أنه يساهم في تقطيع أوصال البلد وعزل مناطق عن أخرى.
ورداً على سؤل حول هل قرر حزب الله اللجوء للقوة لفض تظاهرات الحراك اللبناني؟
يؤكد المصدر أن خيار الحرب والتصادم ليس خيار الحزب فهو يدرك مخاطر جر البلاد نحو المجهول.
رسائل حزب الله من 7 مايو الجديدة
في الزاوية الأخرى يرى غسان حجار رئيس تحرير جريدة النهار اللبنانية أن الاستعراض الذي نفذه حزب الله في الشارع عبر «غزوة الرينغ» كان يهدف لإيصال مجموعة رسائل، أولها لرئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري المتردد في حسم خياره، وقد رأيناه بالفعل يحسم خياره.
والرسالة الثانية لقيادة الجيش والأجهزة الأمنية والتي يرى الحزب أنها متعاطفة مع الانتفاضة، في محاولة للقول أنه لن يسمح بعد اليوم بقطع الطرقات والسماح بهذا الأسلوب من الاحتجاج.
تجدر الإشارة إلى أن الجيش اللبناني لم يمنع أعتداء عناصر حزب الله وحركة أمل خلال أحداث 7 مايو 2008 على سكان بيروت.
وأما الرسالة الثالثة فيرى حجار أن الحزب أراد إيصالها للقوى السياسية المشاركة في التحركات الشعبية، للقول إنكم لن تستطيعوا حماية الناس في الشارع وعليكم الانسحاب كي لا تتكرر الأمور. وعن الرسالة الأخيرة فيؤكد الحجار أنها موجهة للقوى الدولية الداعمة للثورة، لتمرير رسالة قاسية تقول لا تراهنوا بعد اليوم على الشارع وأنه بإمكاننا تفريغ الساحات والتظاهرات خلال دقائق.
ويؤكد حجار أن الانتفاضة استطاعت تحقيق مكاسب كبيرة وبطبيعة الحال سيكون حزب الله أبرز المتضررين منها، لأنها استطاعت هز أركان السلطة وإسقاط الحكومة في الشارع والتي كان يعول حزب الله عليها ويرفض إسقاطها.
لكن في الوقت نفسه يرى الحجار أنه بعد أحداث جسر الرينغ وساحة الشهداء والتصادم الذي حدث، على المحتجين البحث عن طرق أخرى غير قطع الطرقات كي لا تتكرر أحداث اليومين الماضيين. وعن فرضية التصادم العسكري أو الأمني بين الحزب والمتظاهرين.. يقول الحجار بأنه لا مصلحة للحزب بأي تصادم أو الذهاب بالبلد نحو الحرب، لأنها ستضر حزب الله قبل غيره، فجمهور الحزب في قلب الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها البلد وليس هناك جهوزية لهذا الخيار.
الحريري يرد على رسالة الحزب
ويرى المحلل السياسي ربيع دندشلي أن ما جرى في الشارع وما تمخض عنه من تدمير خيم المتظاهرين في وسط بيروت هو أن حزب الله قرر توجيه رسالة قاسية اللهجة في الشارع ليقدم نموذجاً لما تعنيه فكرة الشارع وفلتانه للحريري.
لكن الحريري تلقف الرسالة ببيان الاعتذار عن التكليف عكس ما كان يتوقع البعض، ما يشير لفرضية أوراق القوة التي يمتلكها الحريري في الظرف الراهن.
ويقول دندشلي إن الرد على بيان الحريري جاء بتسريبات حول تحديد موعد الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة يوم الخميس ما يؤكد أن الحكومة ستكون من دون الحريري، فالرجل يعي ما ستمثله حكومة هو رئيسها من ناحية المصداقية الدستورية والثقة الدولية فيها.
ويرى أن الرد بالاستشارات وليس في الشارع قد يضطر ربما قوى المعارضة (تيار المستقبل – القوات – الاشتراكي) لمقاطعة الاستشارات في حال لم يتم التفاهم معهم على رئيس الحكومة وشكلها المستقبلي، ما قد يضطر حزب الله للقيام بـ 7 مايو جديد، لكنه لن يقابل هذه المرة بصمت القبور، وقد يجر الشارع لمواجهة مضادة غير محسوبة العواقب.
copy short url   نسخ
28/11/2019
612