+ A
A -
د. صالح النعامي
شرعت إسرائيل في انتهاج سياسة الاغتيالات في غزة مطلع سبعينات القرن الماضي، في محاولة للقضاء على الخلايا الفلسطينية التي كانت تستهدف قوات الاحتلال في أرجاء القطاع وتنفذ عمليات تسلل خلف الحدود ضد المستوطنات وقواعد الجيش الواقعة في صحراء النقب. وبتعليمات مباشرة من قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال في ذلك الوقت، أرئيل شارون، تم تشكيل وحدة خاصة لتنفيذ الاغتيالات ضد قادة الخلايا الفلسطينية، أُطلق عليها وحدة «ريمونيم»، والتي قادها مائير دغان، الذي تولى فيما بعد رئاسة جهاز الموساد، وقد نجحت الوحدة في غضون ثلاث سنوات في القضاء على خلايا المقاومة بشكل تام.
وفي الفترة الفاصلة بين عامي 1973 واندلاع الانتفاضة الأولى أواخر العام 1987، أوقفت إسرائيل عمليات الاغتيال وذلك بسبب تراجع العمل الفلسطيني المسلح داخل قطاع غزة بشكل كبير، إلى جانب أن إحكام الجيش الإسرائيلي سيطرته على قطاع غزة في هذه الفترة مكَّنه من إحباط محاولات تشكيل خلايا للعمل المسلح في مهدها.
وعادت إسرائيل لممارسة سياسة الاغتيالات في قطاع غزة والضفة الغربية خلال الانتفاضة الأولى التي اندلعت نهاية 1987، حيث اغتالت إسرائيل في هذه الفترة 195 فلسطينيًّا، ممن اعتبرتهم مطلوبين لها. وحرصت إسرائيل في هذه الفترة على استهداف القيادات العسكرية وتجنبت المس بالمستويات السياسية في الفصائل الفلسطينية.
وقد شكَّل اندلاع انتفاضة الأقصى، في العام 2000، نقطة تحول فارقة في سياسة الاغتيالات، حيث اغتالت إسرائيل بين عامي 2000 و2006 داخل قطاع غزة فقط 307 أشخاص، 167 منهم كانوا مستهدفين، في حين قُتل 140 آخرون بسبب وجودهم بالقرب من الأشخاص المستهدفين.
كما عمدت إسرائيل خلال انتفاضة الأقصى إلى استهداف القيادات السياسية والعسكرية؛ حيث عملت على تصفية معظم القيادات السياسية لحركة حماس على وجه الخصوص.
وفي عام 2006، أضفت المحكمة الإسرائيلية العليا الشرعية على استخدام الاغتيالات ضد قادة ونشطاء حركات المقاومة الفلسطينية؛ حيث رفضت المحكمة التماسين قدمتهما منظمتان يساريتان ضد مواصلة هذه السياسة.
مسوغات ومحددات عامة
لسياسة الاغتيالات الإسرائيلية
شملت مسوغات ومحددات سياسة الاغتيالات التي اتبعتها إسرائيل في مواجهة التنظيمات الفلسطينية المركَّبات التالية:
أولًا: حسب التقدير الإسرائيلي، فإن الاغتيالات تلعب دورًا مهمًّا في المس بقدرة التنظيم على مواصلة العمل المسلح من خلال ضرب أطره القيادية والميدانية. وتنطلق المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من افتراض مفاده أن القيادات الجديدة التي تتولى مقاليد الأمور محل القيادات التي تغتال، لا تكون في الغالب بمستوى القيادات التي يتم اغتيالها من حيث السمات القيادية والأداء العملياتي.
ثانيًا: حسب تقديرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فإن الاغتيالات تسهم في مراكمة الردع في مواجهة الفصائل الفلسطينية ودفعها لوقف عملياتها العسكرية أو تقليصها، ومارست إسرائيل عمليات الاغتيال أيضًا بدافع العقاب والانتقام من التنظيمات الفلسطينية ردًّا على عمليات نفذتها ضد أهداف إسرائيلية.
ثالثا: إحداث فراغ في رأس الهرم القيادي للتنظيم، من خلال ضرب القيادات السياسية والتأثير على قدرتها على مواصلة العمل، بحجة أن هذه القيادات تلعب دورًا مركزيًّا في توجيه العناصر وتحريضها على العمل المسلح، من هنا، عمدت إسرائيل إلى اغتيال معظم القيادات السياسية لحركة حماس خلال انتفاضة الأقصى.
رابعًا: وظفت إسرائيل عمليات الاغتيال في محاولة رفع الروح المعنوية للجمهور الإسرائيلي وللتغطية على فشلها في حسم المواجهة مع الفصائل الفلسطينية؛ إلى جانب توظيف الاغتيالات في إحباط فرص التوصل لتسوية سياسية للصراع.
خامسًا: ترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن هناك علاقة عكسية بين تأثير عمليات الاغتيال على تنظيم ما وحجمه؛ بحيث إنه كلما كان التنظيم أصغر حجمًا كان لسياسة الاغتيالات دور أكبر في تعطيل قدراته العملياتية ؛ فعلى سبيل المثال، تفترض الدوائر الأمنية في تل أبيب أن عمليات الاغتيال تؤثِّر على حركة الجهاد الإسلامي بشكل أكبر من تأثيرها على حركة حماس.
محددات سياسات الاغتيالات بعد 2009
لعبت الحرب الأولى التي شنَّتها إسرائيل على قطاع غزة، منتصف ديسمبر 2008، وانتهت مطلع 2009، دورا مركزيًّا في إحداث تحول على طابع المحددات والمسوغات التي باتت تحكم سياسة الاغتيالات ضد قادة ونشطاء التنظيمات الفلسطينية في القطاع والأهداف التي تحاول تحقيقها من ورائها، وذلك للعوامل التالية:
أولًا: لعب تعاظم القوة الصاروخية للحركات الفلسطينية دورًا مركزيًّا في المس بدافعية إسرائيل لتنفيذ عمليات الاغتيال، على اعتبار أن الرد الفلسطيني بإطلاق الصواريخ وقذائف الهاون بات يؤثِّر بشكل كبير على الجبهة الداخلية والعمق المدني الإسرائيلي، بحيث إن إسرائيل باتت تأخذ بعين الاعتبار أن كل عملية اغتيال ستفضي بالضرورة إلى استهداف الجبهة الداخلية بالصواريخ بشكل يؤثر على أنماط الحياة الاجتماعية والواقع الاقتصادي، فضلًا عن مسه بمستوى الشعور بالأمن الشخصي والجماعي لدى الإسرائيليين. ومما يضفي صدقية على هذا الاعتبار حقيقة أن ردَّ حماس، أكبر التنظيمات الفلسطينية في قطاع غزة على اغتيال مؤسسها وزعيمها، الشيخ أحمد ياسين، عام 2004، لم يتجاوز إطلاق ثلاثة مقذوفات صاروخية بدائية من طراز «قسام»، سقطت في مناطق مفتوحة في منطقة «غلاف غزة»؛ في حين عندما اغتالت إسرائيل قيادي متوسط المكانة في تنظيم صغير نسبيًّا، مثل بهاء أبو العطا، قائد المنطقة الشمالية في الجهاز العسكري لحركة «الجهاد» مؤخرًا، ردَّ التنظيم بإطلاق حوالي 450 صاروخًا، اضطرت إسرائيل بسببها إلى إغلاق جميع المرافق التعليمية والاقتصادية في القطاعين، العام الخاص، في جنوب ووسط إسرائيل، على مدى يومي المواجهة، من هنا، فقد تجنبت إسرائيل منذ العام 2009 تنفيذ عمليات اغتيال إلا في إطار حربي 2012 و2014، مما يعني أن اغتيال أبو العطا كان أول عملية اغتيال تتم منذ انتهاء حرب 2014.
باتت إسرائيل تدرك أن الاغتيالات ستكون مرتبطة بالضرورة باندلاع حرب أو مواجهة محدودة؛ لذا لم تقم إسرائيل بعد انتهاء حرب 2009 بأية عملية اغتيال على مدى 4 سنوات تقريبًا. وعندما قامت باغتيال أحمد الجعبري قائد الجناح العسكري لحركة حماس، في نوفمبر 2012، فقد تم تصميم عملية الاغتيال لتكون نقطة انطلاق في حرب شاملة شنَّتها على الفصائل الفلسطينية، حيث ترافقت عملية الاغتيال باستهداف ما زعمت أنه مخازن سلاح ومنصات إطلاق صواريخ.
ثانيًا: اقترن الرد الفلسطيني على عمليات الاغتيال باستخدام الصواريخ بتأثيرات كبيرة على المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي؛ ففي أعقاب اغتيال القيادي في الجهاد، بهاء أبو العطا، وعلى الرغم من أن «الجهاد» تولَّى وحده فقط مهمة الرد على الاغتيال بإطلاق الصواريخ، فقد اضطر الجيش الإسرائيلي إلى إغلاق جميع المرافق التعليمية والاقتصادية الواقعة على مسافة 80 كلم شمال قطاع غزة؛ حيث لم يتمكن مليون طالب إسرائيلي من التوجه إلى مدارسهم، وقد قُدِّرت الكُلفة الاقتصادية لتعطيل المرافق الإنتاجية في كل يوم من يومي المواجهة الأخيرة بخمسة مليارات شيكل (1 مليار و150 مليون دولار)
ثالثًا: جعل الحصار الذي يعيشه قطاع غزة وما رافقه من تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية الفصائل الفلسطينية أكثر استعدادًا لخوض غمار مواجهة مع إسرائيل، مما أسهم في تقليص دور عمليات الاغتيال في مراكمة الردع، على اعتبار أنه لا يوجد لغزة ما تخسره، حيث إن تنفيذ عمليات اغتيال سيمثل مسوغًا لاندلاع مواجهة، لا يخدم توقيتها المصالح الإسرائيلية دائمًا.
رابعًا: منذ العام 2009، توقفت إسرائيل عن استهداف القيادات السياسية لحركات المقاومة في القطاع واكتفت باستهداف المستويات العسكرية، أثناء حربي 2012، و2014، ويرجع هذا التوجه إلى اقتناع دوائر صنع القرار في تل أبيب بأن استهداف القيادات السياسية يؤجج بشكل خاص الرغبة في الرد والانتقام لدى التنظيمات الفلسطينية.
خامسًا: لعبت حالة انعدام اليقين التي تواجهها إسرائيل على الجبهتين الشمالية والشرقية، سيما في سعيها إلى إحباط التمركز الإيراني العسكري في سوريا والعراق، دورًا في تقليص دافعيتها للإقدام على خطوات تفضي إلى اندلاع مواجهة مع غزة، وضمن ذلك عمليات الاغتيال التي يفضي تنفيذها إلى مثل هذه المواجهات.
سادسًا: لعبت التوجهات الأيديولوجية لليمين، الذي يتولى مقاليد الحكم في تل أبيب منذ 2009 دورًا في تقليص دافعية إسرائيل للإقدام على عمل عسكري ضد غزة قد يبدد «الإنجاز» الإسرائيلي المتمثل في تكريس الفصل السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة في أعقاب تفجر الانقسام الفلسطيني الداخلي. فاندلاع مواجهة في أعقاب تنفيذ عملية اغتيال يحمل في طياته خطر تدحرج المواجهة إلى حدِّ إعادة احتلال غزة، بشكل يجبر إسرائيل على التفاوض على مصير الضفة الغربية من أجل إقناع السلطة الفلسطينية بتولي زمام الأمور في القطاع. من هنا، فقد تبنَّت حكومة اليمين استراتيجية «إدارة الصراع» في مواجهة غزة من خلال التوصل لتفاهمات تهدئة في أعقاب جولات التصعيد، على اعتبار أن السعي إلى حسم الصراع يهدد «إنجاز» اليمين المتمثل في الفصل السياسي بين الضفة وغزة.
وإزاء ما تقدم، لم يكن من سبيل الصدفة أن كشف وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، أفيغدور ليبرمان، أن رئيس الحكومة، بنيامين نتانياهو، ورئيس الأركان السابق، جادي إيزنكوت، رفضا قبل عام اقتراحه باغتيال أبو العطا بسب التخوفات من تبعات هذه الاغتيال.
لماذا اغتيال أبو العطا؟
كبديل عن توقف الاغتيالات بعد حرب 2014، عمدت حكومة اليمين، التي تتولى زمام الأمور منذ العام 2009، إلى تبني سياسة بديلة تقوم على استهداف مقدرات حركة حماس العسكرية ردًّا على أية عملية إطلاق تتم من غزة، بغضِّ النظر عن هوية التنظيم المسؤول عنها، بحجة أن حماس تتولى مقاليد الحكم في القطاع وبالتالي يتوجب جباية ثمن منها، انطلاقًا من افتراض مفاده أن هذه السياسة تخدم استراتيجية «إدارة الصراع»، التي يتبناها اليمين تجاه القطاع. وفي معظم الحالات، أسفرت الهجمات على مقدرات حماس عن أضرار مادية فقط. وفي مواجهة هذه السياسة، أعلنت الفصائل الفلسطينية، في يوليو/‏تموز 2017، عن تشكيل «غرفة عمليات مشتركة» تضم جميع أذرعها المسلحة، بهدف التوافق المسبق على توقيت وطابع العمل المسلح المنطلق من غزة، لكن بعض الفصائل، وتحديدًا حركة «الجهاد الإسلامي» لم تلتزم دائمًا بالتنسيق مع «غرفة العمليات المشتركة» وعمدت إلى إطلاق صواريخ إلى العمق الإسرائيلي، وهو ما جعل إسرائيل تعاود ضرب أهداف حركة حماس.
وتوصلت إسرائيل مؤخرًا إلى قناعة مفادها أن الرد على الصواريخ التي يطلقها الجهاد بضرب أهداف حركة حماس لن يحل المشكلة، وأنه يتوجب العمل مباشرة ضد الجهاد، وسيما أن إطلاق الصواريخ أحرج اليمين الحاكم قبيل جولتي الانتخابات الأخيرتين وفي أوج الأزمة السياسية التي تعلق فيها إسرائيل حاليًّا. فجاءت عملية اغتيال بهاء أبو العطا كتجسيد لهذه القناعة؛ حيث اتهمت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أبو العطا بالمسؤولية عن معظم عمليات إطلاق الصواريخ التي طالت إسرائيل خلال الأشهر الماضية.
خاتمة
تعد سياسة الاغتيالات مركَّبًا من مركبات الاستراتيجية التي تتبعها إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وتخضع هذه السياسة لحسابات الربح والخسارة، وعليه، فمن غير المرجح أن تواصل تل أبيب سياسة الاستهداف الانتقائي عبر تنفيذ عمليات اغتيال ضد قيادات في التنظيمات الصغيرة، يتبعها اندلاع مواجهات محدودة؛ كما جرت الأمور في أعقاب اغتيال أبو العطا. فالكثير من النخب الأمنية والسياسية في تل أبيب يرى أن قوة الردع الإسرائيلية تراجعت، وليس العكس، في أعقاب جولة التصعيد التي تلت الاغتيال.
من هنا، فإن إسرائيل قد تعيد الاعتبار للمحددات التي حكمت سياسة الاغتيالات بعد حرب 2009، بحيث لا تُقدم على هذه السياسة إلا في إطار توجهها لشنِّ حرب شاملة، تمامًا كما حدث في حربي 2012 و2014. وفي حال لم تَرَ إسرائيل أن مصلحتها تقتضي اندلاع مواجهة مع الفصائل الفلسطينية، فإن فرص إقدامها على تنفيذ عمليات اغتيال مستقبلًا ضد قادة فصائل المقاومة ستكون ضئيلة.
لكن في حال لعب حزب «أزرق أبيض» المعارض دورًا مهمًّا في عملية صنع القرار، سواء من خلال تشكيله الحكومة القادمة أو عبر المشاركة في حكومة «وحدة وطنية» بمشاركة أحزاب أخرى، فإن فرصة استئناف سياسة الاغتيالات ستتعاظم. فحزب أزرق أبيض ينادي بحسم المواجهة مع غزة عسكريًّا عبر شن غارات جوية تقود إلى اغتيال أكبر عدد من قادة التنظيمات الفلسطينية السياسيين والعسكريين؛ وفي الوقت ذاته تشجيع الفلسطينيين على التمرد على حكم حماس، بهدف إحداث تحول على البيئة السياسية في القطاع بما يخدم المصلحة الإسرائيلية وينسجم مع برنامجه السياسي.
{ باحث وصحفي متخصِّص في الشأن الإسرائيلي وتقاطعاته العربية والفلسطينية والإسلامية.أقدمت إسرائيل مؤخرا على اغتيال بهاء أبو العطا، القيادي العسكري في حركة «الجهاد الإسلامي»، بعد أن توقفت لمدة 5 سنوات عن استخدام هذه السياسة، وقد أفضى هذا التطور إلى اندلاع مواجهة بين الجانبين، أسفرت عن مقتل 35 فلسطينيًّا، بينهم ستة أطفال وثلاث سيدات؛ في حين أدى إطلاق الجهاد حوالي 400 صاروخ، إلى تعطيل مظاهر الحياة وسط وجنوب إسرائيل، سيما في منطقة «غوش دان»، التي يتركز فيها الثقل الديمغرافي وتضم أهم المرافق الاقتصادية الحيوية.
يرصد هذا التقرير المسوغات والمحددات التي تستند إليها سياسة الاغتيال الإسرائيلية في غزة، والأسباب التي حدت بها إلى وقفها لمدة خمسة أعوام، ودواعي استئنافها مجددًا، إلى جانب استشراف مآلات المواجهة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في القطاع في ضوء هذه التطورات.
copy short url   نسخ
27/11/2019
643