+ A
A -
محمد سي بشير أستاذ جامعي وباحث جزائري
نظّمت جامعة فرنسية، بعد أيّام من انطلاق موجة الربيع العربي، في العام 2011، ملتقى تمحورت إشكاليته على موضوع حيوي، نعيشه في العالم العربي: هل تفضي الانتفاضات (الثورات) في العالم العربي إلى تغيير داخل النظام أم إلى تغيير للنّظام؟ في الحقيقة، يعيش العالم العربي على وقع هذه الإشكالية، وينافح لتغيير المعادلة لإحداث تجديد/ دوران للنّخب، وليس للتّغيير، فقط، لأنّ التّجديد مغاير للتّغيير، وهو محور هذه المقالة على خلفية ما نراه ماثلا، أمام أعيننا، في الجزائر، بعد قبول سلطة الانتخابات ملفّاتٍ خمسة، جميعها لمرشّحين عملوا في ظلّ نظام الرّئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، وكأنّ الجزائر لا تحتوي، بين أبنائها، داخلها وخارجها، على رجال ونساء نظيفي الأيادي وأصحاب كفاءات ومهارات.
تحتاج الأمم، للحفاظ على حيويتها، جيلا بعد جيل، على الأقل، إلى منظومة تجديد بيولوجية واجتماعية للنخب، حتى تبقى محافظة على حيويتها، وترفع تحديات البقاء على القمة والمنافسة عليها، وتعمل، لتجهيز تلك الظروف، على فرض حزمةٍ من الشروط التي تعدها ضرورية، بل حيوية للإبقاء على شعلة المنافسة المتكافئة بين فئات المجتمع، للوصول إلى تبوّء المكانة الرفيعة بأدوات العلم، الكفاءة والجاهزية الكاملة. ولهذا نرى الأمم المتقدمة ترعى التعليم، تهيئ أجواء تكافؤ الفرص، ترصد الكفاءات لترفع من شأنها، وذلك كله للحفاظ على تلك التنافسية داخل المجتمع، وتستعد لضخ الدماء الجديدة الكفيلة بتجسيد ذلك الوجود في أسمى المراتب والتصنيفات العالمية، وقد أوجدت الأمم لذلك منظومات تنافسية وتداول على القمة فيها بحيث تسمح، فترة بعد فترة، للناجح بالاستمرار وللفاشل أو المترهل، بالنزول من على صهوة الجواد ليصعد الآخرون، والأيام، كما يقال، دول بين نخب تأتي وأخرى تذهب.. ويسير التاريخ بتلك السيرورة إلى الأمام. يكون هذا الأمر، على المستوى النظري، كفيلا، عند تحققه على أرض الواقع، بتجسيد أمنيات الأجيال وإحقاق التغيير المنشود لرفع تحديات التغيير والاستمرار، لأنها الثنائية التي تحكم حركية السلوك البشري على هذه الأرض.
وبتطبيق تلك المقدمة على الجزائر، نصل إلى أن البلاد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، في مقالة سابقة للكاتب، منقسمة إلى ثلاثة أجيال، منذ الثورة التحريرية الكبرى لعام 1954: جيل قاد الثورة، جيل الاستقلال، والجيل الحالي من الشباب، طلبة، أطباء، أساتذة من كل الأطوار ومواطنون بين 20 و35 سنة. قاد جيل الثورة أهمّ المراحل، وأوصل البلاد إلى المرغوب الاستراتيجي الأول للجزائر، وهو الانعتاق من الاستيطان الفرنسي، وإعادة بعث نواة الدولة الوطنية التي أرسى قواعدها الأمير عبد القادر الجزائري، وهو الجيل الذي كانت له الفرصة لبناء جزائر الاستقلال على قواعد راسخة وثابتة.
وكان لهم ذلك، إلى حدّ بعيد، حيث إنّ الثوابت التي ينحني أمامها الجزائريون من صنعهم، وتتضمن تركيبة الهوية الوطنية: الإسلام، اللغتين العربية والأمازيغية، العلم الوطني، النشيد، بيان الأول من نوفمبر، إضافة إلى حدود البلاد ومكانة الشّهداء والمجاهدين في الذاكرة الوطنية الجمعية، من دون إغفال الامتداد الطبيعي المغاربي، العربي ــ الإسلامي والأفريقي.
ولكن ذلك الجيل فشل في سياسات بناء الدولة الوطنية لما بعد فترة الاستقلال، كما فشل، أيضا، في بناء نموذج اقتصادي يفضي إلى الخروج من التبعية للاقتصاد العالمي، ولدائرة تأثير القوة الاستعمارية السابقة، فرنسا.
أدّى هذا الفشل إلى تراكم في الفشل للسياسة العامة على الأصعدة كافة، إذ لم يصل النظام السياسي إلى تجسيد الاستقلال الفعلي للدولة الوطنية اقتصاديا، سياسيا ومجتمعيا، ليتولد عن ذلك تردّد لدى جيل الاستقلال في معالجة ذلك الفشل بالصدمة، أي إحداث ثورة على نواة الفشل الأولى، على الرغم من محاولة الرئيس الراحل، بومدين، إحداث ذلك من خلال الخروج من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية في عام 1976. ولكن، لسوء الحظ، توفّي بومدين في 1978 قبل أن يكمل مشروع تصحيح الأخطاء التي وقع فيها من قبله بن بله، والتي وقع فيها هو، أيضا، عبر إقراره ثورات ثلاث، زراعية وصناعية وثقافية، من دون توافق مجتمعي.
(يتبع)
{ عن ( العربي الجديد)
copy short url   نسخ
15/11/2019
428