+ A
A -
د. محمد زكي عيادة
إنَّ مَن يتفكَّر في حال الشَّرق وأوجاعه الرَّاهنة يدرك أنَّ ما يعتريه من تِيه وتمزُّق ليس نتاج أزمات اقتصاديَّة أو كوارث بيئيَّة أو مؤامرات كونيَّة فحسب كما يدَّعي البعض، وإنّما هو وليد أزمة معرفيَّة بالدَّرجة الأولى، تُلقي بظلالها على مناحي الحياة كافَّة؛ فتصبغها بلون قاتم مُخجل لا يليق بدِين سماويّ عظيم، ولا يتماشى مع خُلق إنسانيّ كريم.
صحيح أنَّ هذه الأمَّة ولَّادة، وصحيح أنَّها تحتضن كوكبة من أهل الفِكر والثَّقافة والتَّنظير وبأعداد تكفي لانتشالها من درك الجهالة، ولكنَّ معظم هؤلاء المحسوبين على النُّخبة الثَّقافيَّة لم يتمكَّنوا من التخلُّص من داء العصبيَّة البغيضة والنَّظرة الشَّخصيَّة المفتقرة لميزان العدل تجاه الآخر المختلف عنهم دينًا أو لغة أو ثقافة، الآخر الذي هو شريك في الأرض والحياة بحكم العدالة والتَّاريخ.
فكم مِن مثقَّف شرقيّ يطالب بالحريَّة، ويندِّد بالظُّلم والجبروت، ويهاجم أسماء طواغيت بعينها لسيرتهم الدمويَّة القبيحة، ولكنَّه في الوقت نفسه يمجّد دكتاتورًا آخر يحفظه في صدره لا يقلّ دمويّة عن أولئك الطغاة !
هذا الميزان المختلّ شوَّه قيمًا ومفاهيم أساسيَّة في الحياة كالبطولة والوطنيَّة والموضوعيَّة والإنسانيَّة...، وأوجد بين النُّفوس حواجز وحدود أدهى وأمرّ من تلك التي مزّقت جسد الأمَّة، فباتت المواقف والأحكام تُبنى على الأهواء والمصالح والآراء الهشَّة، فمن أراه دكتاتورًا قد تراه أنت بطلًا هُمامًا، ومن يراه أحدهم ظالمًا مستبدًّا يراه آخر مُخلِصًا ومُخلِّصًا! فما أرخص مهر البطولة في الشرق! خطبة عصماء أو طلَّة بهيَّة أو شارب ثخين أو كلمات تداعب العواطف الخاوية...!
وفي نهاية المطاف تجد النَّاس يتقاسمون فيما بينهم أولئك الظَّلمة المشوَّهين أخلاقيًّا، ويصنعون لهم في القلوب تماثيل مقدّسة، ثمَّ يُحصِّنونها بأخبارٍ وقصص ملفَّقة أو تاريخ مزوَّر! فيتحوَّل حُبِّهم لهؤلاء إلى عقيدةٍ ومنهج حياة! وبذلك تبرز المعضلة الكبرى والخلل الذي يُفتِّت المجتمعات وينخرها على كلِّ الأصعدة، لتزدحم فيه القلاعُ العاجيَّة التي يتمترس وراءها كلُّ مثقَّف متعصِّبًا لرأيه، مُخطِّئًا مَن خالفه أو حتى مُكفِّرًا إياه! إنَّه داءٌ فتَّاكٌ يشوِّه الحقيقة وينفي الأمل، يمكن تسميته بـــ (الحَوَل الفِكريّ).
وإن كان هذا الحَوَل داء أصابَ معظم المثقَّفين في مجتمعاتنا فكيف بحال العامَّة من النَّاس! الذين رهنوا عقولهم وقلوبهم وألسنتهم لقناة إخباريَّة ما أو داعية بعينه أو حِزب محدَّد أو وسيلة تواصل دون أخرى، يستقون منها المواقف والمبادئ والاتجاهات، فيتلقَّفون ما يصدر عنها من أخبار وأفكار وفتاوى، ويحوِّلونها إلى القلب مباشرةً ليصبَّ في رصيد العقيدة والمعتقد! ومن ثمَّ يهرعون إلى نشرها والدِّفاع عنها بما يمتلكون من صُراخٍ كثيرٍ وإنصات قليل، دون أن يُحمِّلوا أنفسهم عناء التقصِّي والتدبّر والبحث عن الحقيقة! وبذلك انقسم المجتمع الواحد إلى فئات متناحرة بعدد القنوات التي يتابعونها أو بعدد الاتجاهات التي يُساقون إليها، من دون أن يعطوا أنفسهم فرصة استماع الآخر أو تقبُّل اختلافه؛ فينسجون العداء فيما بينهم متناسين الروابط المشتركة والتَّعاليم الدِّينيَّة والقيم الإنسانيَّة الجامعة بينهم والتي تنهارُ بسهولة أمام عبارة واهية أو خبر مُلفَّق تنفثه إحدى الجهات أو القنوات سُمًّا ناقعًا في جسد المجتمع؛ يغيب على أثره الوفاق، ويطفو على الأفواه والأقلام الشِّقاق والنِّفاق!
ولأنَّ البشر بطبيعتهم يختلقون الذَّرائع لتبرير الهزائم؛ كان من السَّهل أن يُلقي الجميع اللَّوم في رداءة الواقع على المؤامرات الخارجيَّة والصهيونيَّة العالميَّة، أو حتى على عالَم الجِنِّ والسِّحر والشعوذة؛ كي يريحوا أنفسهم، وينتشوا بتحليلاتهم الشفويَّة بعد أن وزَّعوا تُهم الخيانة والتَّآمر على من خالفهم أو اختلف عنهم، متجاهلين حقيقة أنَّ وجود المؤامرات والمكائد في عالم البشر أمر طبيعيّ وأزليّ يُحاك بين القوة المتصارعة في الأرض منذ أن خلق الله الإنسان، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنَّ التَّعلُّل بهذه المؤامرات لا يُسمن ولا يغني من جوع، وإنّما التَّعويل على تعميق الفِكر، وتقبُّل الآخر، وتوسيع دائرة الفهم السَّليم للدِّين والمعتقد بحيث يكون التَّطبيق والمعاملة هما اللّسان النَّاطق المُعبِّر عن عظمة دِين أو حضارة شعب أو عراقة تاريخ، بحيث تُعرَض أفعال الآخرين وأقوالهم على ميزان العدل والإنسانيَّة قبل الحكم عليها وتثبيتها في القلب ودرجها على اللسان، حينئذ سيعيش الجميع سواسية تحت ظلال القانون وحدود الحقوق والواجبات، فتتآلف الشُّعوب في الوطن الواحد، ويتحوَّل اختلافها الثقافيّ واللُّغويّ إلى قوَّة وغِنى، يرسي دعائم مجتمع متراحم متلاحم، وعندها فقط ستنقلب المؤامرات على أصحابها، وتتحطَّم المكائد والدَّسائس على صخرة الوعي، وبذلك كلَّما ازداد أعداؤنا قوَّةً وعددًا ومكرًا كان ذلك رادعًا لنا عن التسويف والتهاون والظُّلم، ودافعًا لنا إلى التطوُّر والتسلُّح بالعِلم والبحث المتواصل عن الحقيقة والنِّقاط الجامعة، فالإنسان لا يستطيع إيقاف السِّيول الجارفة المنقضَّة عليه، ولكنَّه يستطيع بالفطنة والتَّعاون بناء السُّدود أمامها؛ وبذلك يجعل من جحيمها نعيمًا وارفًا يحيا الجميع في ظلاله بعزَّة وكرامة تليق بالإنسان.
[email protected]
copy short url   نسخ
09/11/2019
2103