+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب أردني
الأولى أن يقال: «بين بلال ووحشي»، ذلك أنه كانت لبلال بن رباح السابقة في الإسلام والانخراط بكليته في الصراع الذي قاده الرسول العظيم ضد القديم المتخلف حضاريا، في حين أن وحشيا كان الأنموذج المستكين لحالة العبودية والقهر السائدين.
بلال الحبشي، الصحابي اللصيق للرسول الكريم، كان إنسانا يقدر إنسانيته التي لا تتحقق إلا بالانحياز الكلي للدعوة الفارقة تاريخيا، بتبنيها الواعي بعمق لخوض صراع الأمة التي كانت تتبلور كيانا ممتدا في الجغرافيا والتاريخ بمحمولاتهما الثقافية المتنوعة.
في زمن الرق ذاك، احتشدت في بلال كل ميزات الإنسان السوي الفطرة والفكرة، الذي استوعبت روحه وعقله المرامي البعيدة للدعوة الإسلامية في بواكيرها، إذ اقترن اسمه بأسماء النجوم وأولها أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وحمزة بن عبدالمطلب.
فهم بلال بن رباح، الذي مثّل طيفا واسعا من البشر في زمن الرق، أن اللحظة التاريخية كانت تنبئ بانقلاب جذري في مشهد الصراع الذي انفتح على مصاريعه، في مسعى الأمة لحجز مكانتها بين أمم الأرض.
كان مدهشا أن يتصدى عقل بلال لاستيعاب فكرة التحرر وأن يقدم أثمانها من جسده وروحه، ما يكشف عن شخصية ممتلئة بقيم وقوة شكيمة لا تدانى، وهو الذي كان من أقرب الصحابة للرسول.
حرص الرسول العظيم على تقريب بلال بن رباح، واعتماده قائما على متابعة الاتصال مع الوفود والزوار والقادة وإبلاغ الرسائل لقادة الجند وكذا للسياسيين في توجيه دفة كيان الدولة الوليدة، إذ نهض بلال بتلك المهمة وكأنه كان معدا لها وهي التي تستدعي إنصاتا وفهما واستيعابا لمرامي الرسائل والتوجيهات النبوية. بلال بن رباح الذي تمتع بصفات المتصوف الزاهد بمتع الدنيا، اقترن تصوفه الفعلي بالنأي بالنفس عن الغرض، الذي يُذهب العقل ويمحو الروح التي كان عتقها ذاتيا عميقا، وقبل أن يحرره أبو بكر الصديق، إذ ابتاعه من أمية بن خلف.
كان هذا الصحابي ممتلئا بالحرية التي قادته إلى الإسلام دينا ونهج حياة، وكأنما كان بلال مخلوقا لينهض بمهمة الإبلاغ التي حرص عليها الرسول. كان ذلك تكريما وتقريبا لهذا الحبشي الذي ساواه الإسلام بعمق مع القادة العظام من رفاق الرسول وصحابته الأجلاء.
كان بلال ملهما للناس الذين تاهت بهم السبل وأفقدتهم العبودية معالم الإنسان وفحواه وجلده الذي يتسلح به لتحقيق إنسانيته.
بلال ذاك الحارس أبدا لحقيقية الاختيار والوجهة التي يدرك صاحبها أنه يسهم في تأصيل الوعي الجمعي للعرب في لحظتهم الفارقة.
بلال اليوم ينحسر انعكاسه، إذ لو كان الوضع غير ذلك لما انحدرت أوضاعنا إلى هذا الدرك من المهانة، فالعربي اليوم لا يعي ذاته التي تشبه ما كان عليه بلال بن رباح، قبل أن يحتشد بأحلامه الكبيرة في التحرر من عبودية العصر ورقيقه.
«بين وحشي وبلال»، بصفهتما أنموذحين صارخين ومتناقضين لاستيعاب المستعبدين للمتغير والاستجابة له، تتكثف صورة العربي الذي تتنازعه نوازع العيش في العصر وهو يئن تحت وطأة الماضي الثقيلة.
{ (يتبع)
copy short url   نسخ
08/11/2019
4512