+ A
A -
.. كأنّ العرب ما برحوا ضاحية البيازين في ثنائيتها الملهبة للخيال: حي غرناطي يمور بالحياة المدينية في ميمعة القرون الوسطى، وتهديد بمحور لهذه الحياة الصاخبة بحرب قشتالة البربرية لاقتلاع العرب من الأندلس. إذ تتفق كل تدوينات التاريخ على اختلافها، على أن هذه الحياة المدينية العربية التي كانت سائدة في الأندلس، وخصوصا في غرناطة آخر حصونهم في شبه الجزيرة الأيبيرية، كانت أنموذحا لذروة التطور الاجتماعي الاقتصادي الذي بلغه العرب. هي الميزة التي سارعت أوروبا لسحقها ومحوها من على الخريطة، لتبني هي أنموذجها الاجتماعي الاقتصادي، فيكون لها السبق تاريخيا في اجتراح التقدم الحضاري. ما ينقل عن صخب حياة المدن الأندلسية العربية يؤكد أن حياة العرب اتسمت بالمدينية وما فيها من تحضر معيشي ساد في المفاهيم الناظمة للحياة وممارستها. هذا يعني شعبا عاش تطورا اجترحه بفعل الحاجة لتصنيع مستلزماته من الغذاء والكساء والحرب والثقافة. فشوارع المدن تنسب للمهن التي اختص بها أهل الكار دون سواهم، وهو ما يعرف بالتخصص. شوارع للنحاسين والحدادين والوراقين، وبقية المهن التي تقوم عليها حياة مجتمع المدينة.
السؤال المقلق كان دائما: كيف ينهزم أنموذج حضاري متقدم أمام آخر متخلف؟!
فالعملية الاقتصادية التي كانت سائدة في أندلس العرب كانت تتجه إلى تشكل نواة مجتمع رأسمالي منتج، وهو بالضرورة كان يغادر مفاهيم المجتمع الاقطاعي العبودي الذي كان سائدا في أوروبا.
مكتبات ودور علم وبحث وزراعة وصناعات متعددة ومطبخ ثري التكوين، وموسيقى وغناء وأذن تستوعب هذه العذوبة في القول والأداء. وتؤكد المراجع التاريخية أن نحو 200 صناعة عربية كانت في غرناطة عند إسقاطها على يد قشتالة، وهو ما كان فارقا في عالم القرون الوسطى التي اتسمت بالحلكة والظلامية والعبودية وطغيان النص المقدس على العقل الجمعي والمشهد السياسي، ومحاربة أي محاولة لعقلنة سلطة الاستبداد الكهنوتي المهيمن على أوروبا اذذاك.
لم يعرف العرب الحقيقة الصادمة أن بعض ارضهم وقومهم في الاندلس كانوا يذرعون طرق التقدم الحضاري بخطى واثقة بالقدرة على احداث تحولات عميقة تنقل الامة جميعها إلى فضاءات جديدة من التقدم. كما لم يدركوا ان سقوط مملكة غرناطة العربية كان ايذانا بانهزام المشروع العربي الحضاري، ذلك ان هذه المملكة كانت ارضا ومجتمعا لصراعين: الأول ان غرناطة كانت مرشحة كما يبدو لانبثاق قوى اجتماعية اقتصادية تقود عملية تحويل الدولة ذاتها الدولة الرأسمالية بكل شروطها، فيما الثاني كان خطيرا في أن الصراع ضد قشتالة اللاهوتية سيفضي إلى خنق تلك المملكة وتجربتها المستندة إلى ارث تطور العرب في الاندلس.
لذلك،كان اسقاط غرناطة والاجهاز عليها، لحظة نصر الاوتوقراطية الاوروبية التي لم تستطع بدورها ان تصمد طويلا أمام تطور العلاقات الاقتصادية الداخلية وصراعاتها التي افضت بعد قرن ونصف القرن من سقوط غرناطة إلى انبثاق الدولة الأمة الأوروبية التي ما تزال تفرض على العالم هويتها ومفاهيمها.
كان حصار ضاحية البيازين في غرناطة الذي ضربته قشتالة بما هي رأس حربة سلطة اللاهوت الاوروبي المغرق في تخلفه، معادلا موضوعيا في التاريخ لخذلان العرب في اماراتهم وممالكهم المتداعية في افريقيا والشرق العربي. اذ هما فعلان أديا إلى الهدف ذاته: اسقاط لحظة الذروة في تقدم عربي كان يمكن ان يغير مجرى التاريخ رأسا على عقب.
{ (يتبع)
copy short url   نسخ
14/10/2019
359