+ A
A -
كتب - محمد الجعبري
تروي عائشة علي العماري، والدة طفلة من ذوي التوحد، خلال تلك السطور قصتها مع ابنتها في أكاديمية ريناد التي تعمل تحت مظلة التعليم ما قبل الجامعي بمؤسسة قطر، حيث تشغل عائشة رئيس رابطة أولياء الأمور والمعلمين (PTA) في أكاديمية ريناد.
تروي عائشة تجربتها مع ابنتها من ذوي التوحد، وكيف حولت بالعزيمة والعمل المحنة إلى منحة ودافع أمل لها ولابنتها، تعطي دروسا في حديثها لأولياء الأمور عن الطاقة والذكاء الذي يمتلكه هؤلاء الأطفال، مشيرة إلى أنها في رحلتها مع ابنتها لم تؤمن يوماً بالإعاقة، وأصرت على أن ابنتها تمتلك من المهارات ما يمكنها من بناء نفسها وتطوير قدراتها العقلية لتصبح عنصرا فعالا في مجتمعها وفي حياتها.
سنة حلوة يا جميل..
سنة حلوة يا الجازي
لم تطفئ الجازي شموع عيدها، ولم تفتح الهدايا، ولم تتذوق قالب الحلوى الذي وضعنا صورتها عليه ومزجناه بطعم الفراولة الذي تحب، لم تحتفل الجازي معنا بهذا اليوم المميز، ليس لكونها لا تعرف أنه مميز وحسب، بل لأنها بكل بساطة لا تحتاج إلى صخب وأضواء وموسيقى لتحتفل.
فطفلتي التي بلغت اليوم 5 سنوات من العمر، ترسم ضحكتها البريئة في قلبي نوافذ مشرّعة للفرح، ويحملني شغفها لتفاصيل الحياة الحلوة إلى حقول من النقاء والحب، فإذ كل يوم عيد نحتفل به معًا بأمل جديد وحلم جميل.
ابنتي مختلفة.. ابنتي
تعاني من خطب ما!
تعيدني الشموع التي يتراقص لهيبها أمامي إلى الذكرى الثانية لميلاد الجازي. قبل سنتين، حملت ابنتي وقلبي على كفي وهرولت نحو العيادات الطبية في مركز سدرة للطب، عضو مؤسسة قطر، الذي كان قد افتتح للتو. يومها، تحدثوا إلى ابنتي لمدة ساعة، ثم أخبروني أنها تتمتع بذكاء حاد، وأخبروني أيضًا أنها مصابة بالتوحد، وبأنني لن أقدر على تغيير هذا الواقع، لكنني قادرة على تنمية قدراتها وبناء ثقتها بنفسها، وعرّفوني بأكاديمية ريناد التي توفر الدعم للأطفال ذوي التوحد، وهي إحدى المدارس المتخصصة التي تعمل تحت مظلة التعليم ما قبل الجامعي في مؤسسة قطر.
ذلك اليوم، الذي جلب لي مشاعر الحزن الشديد لتأكدي من إصابة طفلتي الصغيرة بالتوحد، هو ذاته الذي زرع فيّ الأمل لأنطلق نحو مؤسسة قطر، حيث وجدت مقعدًا شاغرًا في أكاديمية ريناد التي ستحتضن طفلتي في السنوات المقبلة لتصبح بمثابة بيتٍ ثانٍ لها.
في هذا اليوم لم يعد عيد ميلاد ابنتي يخصها وحدها، بل أصبح عيدي أنا أيضًا، فقد ولدت من جديد كـ «أم لطفلة من ذوي التوحد»، وهو الدور الذي جعلني أكتشف قدراتي، وألهمني الصبر والتعلم والسعي نحو دعم أهالي الأطفال ذوي التوحد من خلال مهامي كرئيس لرابطة أولياء الأمور والمعلمين (PTA) في أكاديمية ريناد التي تعمل تحت مظلة التعليم ما قبل الجامعي بمؤسسة قطر. لقد بدأت رحلتي هنا، رحلة جميلة بكل ما فيها من تحديات وانتصارات.
المؤشرات المبكرة
«التوحد» تلك الكلمة التي كانت حاضرة في بيتنا مذ كان عمر الجازي 6 شهور، ولكنني لم أرغب في منحها أي اعتراف، لم أمتلك الجرأة لأسأل عن المؤشرات التي كنت ألاحظها، فالجازي كانت غالبًا ما تنزوي في ركن الغرفة، تستيقظ ليلًا وتقعد في سريرها دون إصدار أي صوت، تختبئ وتنعزل، وتسرح بعيدًا، ترتب المكعبات ترتيبًا دقيقًا، لا تناديني باسمي رغم أنها تحفظ وتكرر الكثير من أغاني الأطفال، وغالبًا ما أرجوها بالقول: «ردي عليّ يا الجازي»، فلا تلتفت إليّ ولا تتواصل معي بصريًا! وبشكل مفاجئ ترتفع حرارتها إلى درجة عالية. وفي اللحظات الأصعب، تصاب بنوبات غضب شديدة فتصرخ عاجزة عن التعبير عما يبكيها، فتنهمر دموعي لا إراديًا، لأنني أنا أيضًا عاجزة عن فهم دموع طفلتي.
الصراعات النفسية
رغم كل تلك المؤشرات، كان الجميع يقول لي: «الجازي طفلة طبيعية ولا تعاني من شيء، لا تضخمي الموضوع»، لكن إحساسي كان يقول لي العكس، ورغم ذلك استمريت في الهروب من الواقع إلى أن فُرض هذا الواقع عليّ، يوم اصطحبت الجازي لتسجيلها في إحدى الحضانات، فكان الرد: «لا نستقبل أطفالًا حالاتهم مثل حالات ابنتك»! «وما بها ابنتي؟» أجبت! «ابنتك من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهناك حضانات خاصة لها».
تلك كانت الصدمة الأولى! وأتت الصدمة الثانية عندما أصيبت الجازي في كتفها، فاصطحبتها للطبيب، وانتهى بي الأمر وأنا أملأ استمارة خاصة بالأطفال ذوي التوحد، كانت معظم الإجابات إيجابية ولم أتمكن من إتمامها، فكل الدلائل تشير إلى أن ابنتي تعاني من هذا الطيف، بدا الأمر وكأنه يفوق قدرتي على التحمل.
خلال الأشهر الستة التي تلت هذه الأحداث، دخلت في حالة شديدة من الإحباط، ولم أجرؤ على مواجهة المجتمع خوفًا من ردود الأفعال، ولم أتوقف عن تصفح الإنترنت لمعرفة المزيد عن حالة ابنتي، وكنت كلما قرأت أكثر انعزلت أكثر، كما كانت أسئلة من قبيل: «كيف كانت تغذيتك خلال الحمل؟ وهل تناولتِ حمض الفوليك؟» ما قلل من ثقتي بكفاءتي الوالدية.
أشفقت على الجازي وطلبت ضمنيًا منها أن تسامحني، وكنت قد توقفت عن أخذها للمجمعات التجارية، كي أحميها من تحديق بعض الناس إليها ومن قلة وعيهم بطبيعة ما هي عليه وعدم احترام حقوقها.

مواجهة التحديات
لقد كانت تلك الفترة من أشد التحديات التي اختبرتها خلال رحلتي مع التوحد، إلى أن قررت أن أواجه، فسواء كان سبب المرض جينيًا أو وراثيًا أو أي سبب آخر، فهو نتيجة لإرادة رب العالمين، الذي اختارني لأكون أمًا لطفلة متوحدة. وها أنا الآن أغادر مركز سدرة للطب متوجّهة إلى أكاديمية ريناد في المدينة التعليمية، حيث استقبل طاقم المدربين ابنتي منذ اليوم الأول، ولم يدعوها تغادر، حيث تستند رؤيتهم على كون التعلم وتنمية القدرات مهارات يجب تزويد الطفل بها لإحداث تغيير إيجابي في حياته ولدمجه في المجتمع. لقد تأثرت بفهمهم العميق لحالة ابنتي، وكيفية التعامل معها، ما رسّخ ثقتي بالأكاديمية وبكونها المكان الأنسب لها.
كانت الأيام الأولى صعبة، لم تكن الجازي قد اعتادت فراقي، ولم أكن قد اعتدت ألا أجد الجازي في المنزل، فافتقدت صخبها وصوتها، وكيفية إمساكها بأهداب ثوبي طوال الوقت، وطلب احتياجاتها مني عبر الغناء!
مهارات التكيف
لكن، منذ ذلك الحين، بدأت مرحلة الانتصار على التحديات، ومعها بدأ شغف جديد ينمو، شغف للجمال، للتعلم، للمشاركة المجتمعية، للدعم والمساعدة. بدأت أقل كل يوم صباحًا الجازي إلى مدرستها، فتودّعني على عجل وتركض مسرعة إلى صفها، إلى عالمها الجديد، حيث تتواصل مع زملائها وتتعلم الأحرف وكيفية النطق بالعبارات، وفي مرافق مؤسسة قطر كانت تشارك في أنشطة تثقيفية وترفيهية، مثل ركوب الخيل، وكرة القدم، وورش الرسم، وغير ذلك.
تطورت مهارات الجازي بشكل كبير، وأصبحت أكثر انضباطًا واستقلالية، ترتب أغراضها لوحدها، وقد اختارت البنفسجي لونًا مفضلًا، وصارت عندها صديقة مقرّبة.
كما أن تعزيز أكاديمية ريناد لمهاراتي في التعامل مع ابنتي رسّخ إيماني أكثر بأهمية ما نقوم به كأهالي للأطفال ذوي التوحد في رابطة أولياء الأمور والمعلمين، والتي نسعى من خلالها إلى دمجهم أكثر في المجتمع ليكونوا فاعلين ومتميزين في المستقبل.
ذكريات من نور
لقد علمتني ابنتي المتوحدة أن الحياة جميلة بتفاصيلها الصغيرة، فبنينا معًا ذكريات لا تنسى. عندما كانت تدخل في نوبة الغضب، كنت أضع عطرًا طيبًا على يديها فتسترخي، وعندما تغني أغني معها، وعند تأملها لزخات المطر من نافذة الغرفة، أحملها إلى الخارج كي تلعب وترقص وتستمتع بالمياه التي تعشقها، وعند شرودها بالمصابيح المنارة في الشوارع والأضواء العالية كنت أخبرها أنها تشبه تلك المصابيح، فهي أيضًا لديها قلبٌ يشع حبًا، ويبعث النور في كل من حوله.
لقد جعلتني الجازي أفتخر بأن لديّ «طفلة من ذوي التوحد»، لقد أدركت أنها ليست طفلة عادية، بل استثنائية جدًا!
copy short url   نسخ
13/10/2019
1547