+ A
A -
جمال الهواري كاتب وصحفي مصري
المغزى من استدعاء حادثة محمد إبراهيم كامل في ذكراها الـ41، هو التأكيد على شيء جوهري انفردت به السلطة الانقلابية الحالية، خلافا لكل العهود السابقة، وهو غياب أي صوت رسمي قد يختلف مع رأس النظام «عبدالفتاح السيسي»، حين يتعلق الأمر بأمر مصيري سيؤثر على الدولة برمتها لعقود ويهدد استقرارها وتماسك وحياة شعبها، فبينما خاض محمد إبراهيم كامل معركته مع السادات ثم استقال وتبعه سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المسلحة أثناء الحرب وسفير مصر بالبرتغال أثناء توقيع الاتفاقية وآخرين، نجد هنا وزير الخارجية سامح شكري يترك السيسي يوقع اتفاقية تنازل فيها عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل ليشتبك في معارك مستمرة مع ميكروفون قناة الجزيرة ويفرد الإعلام ساعات من البث لتغطية انتصار وزير الخارجية الجسور ويهاجم في نفس الوقت أي شخص يحاول إثارة التساؤلات عن مصير مصر وحصتها في مياه النيل حال قيام إثيوبيا بالبدء في ملء الخزان وتشغيل السد، دون النظر لما قد يترتب عليه من نقص في الحصة المصرية ولما تكلف نفسها عناء التفكير في هذا، ولديها توقيع الجنرال دون قيد أو شرط بالموافقة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاد التحريض الإسرائيلي على هذا التوقيع الذي سيحيي أملها في وصول مياه النيل إليها ثمنًا لوساطتها بين مصر التي يجلس حليفها صاحب نظرية السلام الدافئ في سدة الحكم فيها وبين أثيوبيا التي تربطها علاقات وثيقة بها.
وتعهدت بأن تورد إليها منظومة دفاع جوي لحماية السد، ناهيك عن عشرات الشركات والشراكات الإسرائيلية_الأثيوبية، ليربح الجميع باستثناء الشعب المصري المهدد بالعطش وأراضيه الزراعية المهددة بالبوار والتصحر، وهي أمور لا تشغل الجنرال وعصبته، فالعمل جارٍ على قدم وساق لإكمال العاصمة الإدارية والتجمعات السكنية المتمتعة بكافة الوسائل والرفاهيات، والتي تضمن عدم تأثر النخب المختارة بأي شكل من الأشكال بالنتائج الكارثية الحتمية لتصرفات واتفاقيات الحكم العسكري الرشيد وانعزال الطوائف المرضيّ عنها خلف أسوارها العالية بعيدًا عن باقي قطاعات الشعب المصري التي ستدفع بمفردها ثمن مغامرات وتنازلات النظام الانقلابي الغير مسبوقة.
من الأشياء شبه المسلم بها في عقلية النخبة العسكرية، وبالأخص النظام الحالي، الاعتماد على نظرية «ذاكرة السمك» لدى الشعب -وهي نظرية غير صحيحة لحد بعيد، خصوصًا بعد ثورة يناير-، ولهذا لا يجد أي غضاضة في قول الشيء وعكسه والإتيان بالفعل ونقيضه، وليست المعضلة في هذا التصرف، بقدر ما هي في تصديق رأس النظام وعصبته لأنفسهم في كلتا الحالتين، أتت تصريحات السيسي بانهيار المفاوضات مع أثيوبيا، بالتزامن مع اعترافه ببناء قصور رئاسية وعزمه بناء المزيد منها في تحد واستهتار واضحين بمشاعر واحتياجات الشعب المصري وتناقض لا لبس فيه، فبينما يطالب الشعب بالتقشف، ينفق المليارات على القصور والاستراحات والتجمعات، ويشهر سيوف القوة والقمع والقهر ضد الشعب في الداخل، بينما يوقع ويتنازل ويدفع ويخضع لكل متطلبات القوى الخارجية، المصائب لا تأتي فرادى، ويبدو أن قدر مصر هو المعاناة من المصائب والمشاكل والمعضلات التي انهالت فوق رأس الدولة وشعبها من الاتجاهات الأربعة بوتيرة لم يسبق لها مثيل على مر تاريخها الطويل وخلال السنوات الأخيرة ما تمت إضافته بالسلب في سجلات الدولة المصرية يبلغ ضعف ما أضيف خلال عقود الحكم الجمهوري مجتمعة، من سبقوا في حكم مصر من العسكريين يختلف عنهم السيسي في أنه قام ويقوم بالتنازل عن أصول الدولة وحقوقها التاريخية وثرواتها الطبيعية وأجزاء من أراضيها عبر اتفاقيات وشراكات تم صياغتها بطريقة تجعل من استعادة أي من ما تم التنازل عنه مستقبلًا مطلبًا صعب المنال ويستلزم الدخول في صراعات سياسية وقانونية ودبلوماسية وربما عسكرية مع أطراف عدة وجهات متعددة ودول لديها من القوة والعتاد والتحالفات، ما يجعل من الصراع معها مغامرة غير مأمونة العواقب، هذا لو وجد في سدة الحكم والقائمين على إدارة أمور البلاد من لديه من الوطنية والجرأة ما يجعله يفكر في خوضها من الأساس.
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
21/09/2019
385