+ A
A -
أشارت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية السابقة لأوانها، التي جرت يوم 15 سبتمبر 2019، إلى تصدّر المرشح المستقل قيس سعيّد قائمة المرشحين، يليه المرشح نبيل القروي، في حين حلّ مرشح حركة النهضة عبد الفتاح مورو ثالثًا، بحسب النتائج التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. تباينت التحليلات حول الأسباب والدوافع التي أدت إلى هذه النتيجة، وانصرف اهتمام كثيرين إلى دراسة الانعكاسات المحتملة لهذه النتائج على توجهات الناخبين في الانتخابات التشريعية (البرلمانية) التي ستجرى في أكتوبر 2019.
قيس سعيّد: كسر النمط
احتل المرشح المستقل وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد صدارة الترتيب، بنسبة تفوق 18 في المائة، وحلّ رجل الأعمال الموقوف بتهمٍ تتعلق بالفساد وتبييض الأموال والتهرب الضريبي، نبيل القروي، ثانيًا، بنسبة 15 في المائة، بحسب النتائج الرسمية المعلنة. لم يكن تقدّم قيس سعيّد مفاجِئًا، إذ منحته استطلاعات رأي متعددة مراتبَ متقدمة، منذ أسابيع.
يمثل مجموع أصوات الفائزَين معًا 33 في المائة من أصوات الناخبين الذين يشكلون بدورهم 45 في المائة من أصحاب حق الاقتراع. ليس هذا نصرًا حاسمًا لكنه دليل على تشظّي الخريطة الحزبية.
يُعدّ قيس سعيّد من الوافدين، حديثًا، إلى المشهد السياسي التونسي. فقد عُرف عنه قبل الثورة انشغاله بالتدريس الجامعي والنشاطات الأكاديمية، ولم يُعرف عنه أيّ انخراط في الشأن العام. غير أنّ نجمه سطع في وسائل الإعلام، بعد سقوط الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، في عام 2011، وفي الأعوام التي تلته. فقد داوم على الظهور الإعلامي للتعليق على الإشكالات الدستورية والقانونية، خاصة أثناء تولّي المجلس الوطني التأسيسي إعداد مشروع الدستور. وحقق له أسلوبه التواصلي الخاص نسبةً عالية من المتابعة بين مختلف الشرائح الاجتماعية، خاصة من الشباب؛ إذ تميز بهدوئه وتمسّكه بالحديث باللغة العربية الفصحى، واحترام قواعدها الصرفية والنحوية والصوتية، يساعده في ذلك صوته الجهوري وتلقائيته وأريحيته في الحديث، ما يوحي لدى المتابع بصدقه واختلافه عن الصورة النمطية للسياسي التقليدي، وقد تميز بأدائه في مناظرات المرشحين.
على خلاف المرشحين الآخرين، لم تشهد حملة سعيّد الانتخابية مظاهرَ احتفالية أو دعائية تُذكر، كما رفض أيّ دعم مالي من المؤسسات الاقتصادية ورجال الأعمال، وظهر في صورة المرشح البسيط الذي يتوجه إلى الفئات الشابة، خصوصًا، ويتواصل معها ويستمع إلى مشاغلها، من دون مرافقين أو مستشارين، واعدًا بإحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي، وكسر مركزية السلطة، ومكافحة الفساد، والحدّ من امتيازات المسؤولين.
أثار قيس سعيد جدلًا، في الأسابيع الأخيرة، برفضه مشروع قانون المساواة في الميراث بين الجنسين الذي تقدَّم به الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، والذي اعتبره سعيّد مخالفًا لتعاليم الشريعة الإسلامية، كما أثار جدلًا آخر بهجومه على الأحزاب التي وصفها بـ «المفلسة»، وبدعوته إلى أن تكون «السلطة بيد الشعب»، وهي من مركّبات خطاب يُعتبر في البلدان الديمقراطية شعبويًا. ولقيت تصريحاته تجاوبًا لدى الناخبين الذين ملّوا وعود السياسيين التقليديين وصراعاتهم، وباتوا يبحثون عن الخلاص من واقعهم المعيشي الصعب بعيدًا عن التجاذبات السياسية والهوياتية.
نبيل القروي: دور المال السياسي
خاض المرشح نبيل القروي الانتخابات الرئاسية من السجن، بعد اعتقاله، في 23 أغسطس 2019، بتهمٍ تتعلق بالتهرب الضريبي والفساد. وبصرف النظر عن مواقف أنصاره وخصومه من وجاهة التهم الموجهة إليه وتوقيتها، فإن صعود أسهمه، بسرعة، خلال الأشهر الأخيرة، أثار جدلًا كبيرًا في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. ومع أنّه ترشح باسم حزب، فهو يُعدّ بحقّ مرشحًا فرديًا من خارج الخريطة الحزبية.
بدأ الصعود السياسي السريع للقروي قبل عامين، عندما أسّس جمعية تحت مسمى «خليل تونس»، نسبة إلى ابنه خليل الذي قضى نحبه في حادث سير. قامت الجمعية، التي توصف بأنها «جمعية ذات صبغة غير تجارية»، بدور مهمّ في الترويج للقروي، من خلال جمع التبرعات والقيام بحملات لتوزيع المساعدات العينية والنقدية وإقامة الموائد في عدد من المناطق والأحياء الفقيرة، وبثّ مقاطع منها على قناة «نسمة» التي يملكها، تُظهر المنتفعين وهم يتقدمون إليه بالشكر والثناء. وقد أثار هذا الأسلوب جدلًا واسعًا حول شرعية استخدام العمل الخيري وأخلاقيته لتحصيل مكاسب سياسية، وشراء الذمم وتحويلها إلى رصيد انتخابي.
تصاعد الجدل حول علاقة نشاطات جمعية خليل تونس بالترويج انتخابيًا لنبيل القروي بعد تقديم حكومة يوسف الشاهد مشروع تعديل على القانون الانتخابي إلى البرلمان يمنع، بمقتضاه، رؤساء الجمعيات الخيرية وأصحاب المؤسسات الإعلامية من الترشح للرئاسة، حيث رأى القروي أن التعديل مفصَّلٌ على مقاسه لإقصائه من السباق الرئاسي بعد تصاعد حظوظه بحسب استطلاعات رأي مختلفة. وقد سمح امتناع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عن التصديق على التعديل القانوني المذكور للقروي بأن يمضي قدمًا في تجسيد طموحاته السياسية، ويترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية، في جميع الدوائر الانتخابية، بعد أن شكّل حزبًا جديدًا تحت مسمّى «قلب تونس».
تشير نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية إلى اختراقات مهمة حققها نبيل القروي القادم من شركات الإعلان والدعاية، في مناطق الشمال والوسط الغربيَين، وفي بعض الأحياء الهامشية في المدن الكبرى، حيث ترتفع نسب الفقر والبطالة والانقطاع المبكر عن الدراسة. وقد ساعد الوضع الاقتصادي والمعيشي الضاغط، وعجز النخب السياسية التي تداولت على الحكم، والقطيعة بين المواطن والمسؤول، على تحقيق هذه الاختراقات.
لم يُلق القروي بالًا لاهتزاز صورته نتيجة التسريبات الصوتية التي انتشرت، خلال السنتين الأخيرتين، والتي ظهر فيها، متوعدًا خصومه؛ من سياسيين وناشطين مدنيين، واصفًا إياهم بنعوت مشينة، ومستخدمًا خطابًا عنيفًا وألفاظًا نابية. ويدرك القروي أنّ خزّانه الانتخابي المفترض يستقي من الفئات الاجتماعية المهمشة ذات الانخراط الضعيف في الشبكات الاجتماعية، وأن تأثير خصومه الذين يخوضون صراعهم معه على الفضاء الافتراضي، يظل نخبويًا ومحدودًا وغير مؤثّر.
يمثل القروي ظاهرة مثيرة للاهتمام في المشهد السياسي التونسي، رغم غيابه شخصيًا عن الحملة الانتخابية. غير أن هذه الظاهرة ليست على ما يبدو نتاجًا خاصًا بتونس، بل تأتي في سياق التحوّلات العميقة التي تشهدها القيم السياسية الكلاسيكية في الديمقراطيات حول العالم؛ إذ تراجعت حظوظ السياسي التقليدي الرزين الذي يراكم تجربته ويتدرج في المسؤوليات والأطر الحزبية والمؤسساتية، على امتداد سنوات طويلة، لصالح السياسي الذي يصعد
المركز العربي للأبحاث
سريعًا بفعل المال وجماعات الضغط وجماعات المصالح والتلميع الإعلامي، والاستثمار في خطاب شعبوي يرتكز على فشل الخصوم وبذل الوعود لجمهور لا يمنحه التوجيه الإعلامي المركّز وضغوط الحياة اليومية فرصًا كثيرة للتفكير والنقد.
تراجع النخبة التقليدية
كانت الانتخابات الرئاسية شخصية وليست حزبية كما ظهر بوضوح في المناظرات وغيرها. وليس بالضرورة أن ينطبق ذلك على الانتخابات التشريعية.
لم تحقق المنظومة الحزبية والسياسية التقليدية التونسية، في الحكم والمعارضة، النتائج التي حصلت عليها في الاستحقاقات السابقة، رغم أن استطلاعات الرأي، قبل الانتخابات، منحت بعضها مراتبَ متقدمة. فقد تراجعت حركة النهضة، ممثلةً في مرشحها عبد الفتاح مورو، إلى المرتبة الثالثة، بعدما كانت في الصدارة في انتخابات المجلس التأسيسي 2011 والانتخابات البلدية 2018، وحصلت على المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية 2014. وتفصل خمس نقاط كاملة بين قيس سعيّد، الذي جاء أولًا، عن عبد الفتاح مورو، ممثل النهضة. ولا يختلف حال الأحزاب التي فازت في الاستحقاقات السابقة عن حال حركة النهضة. فقد غاب حزب نداء تونس، الذي فاز بانتخابات 2014، تمامًا، عن الانتخابات الرئاسية 2019، بعد وفاة مؤسسه الباجي قائد السبسي، ومغادرة نجله حافظ إلى الخارج، وتشتت شمل قياديّيه وأنصاره. أما حزب تحيا تونس الذي لم تمض فترة طويلة على تأسيسه على أيدي منشقين عن حزب نداء تونس، فقد حلّ ممثله رئيس الحكومة يوسف الشاهد، في المرتبة الخامسة بنسبة أصوات لم تتجاوز 7 في المائة. أمّا وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، الذي التفّت حوله مكونات عدة من المنظومة القديمة، واعتبر امتدادًا للخطّ البورقيبي (نسبةً إلى الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة)، ومنحته استطلاعات الرأي صدارة الترتيب، فقد حل في المرتبة الرابعة وبفارق معتبر عن سعيّد والقروي.
أمّا أحزاب المعارضة، فمُنيت المكونات اليسارية والليبرالية والوسطية بهزيمة قاسية؛ إذ حلّ القيادي اليساري والناطق الرسمي باسم حزب العمال حمّة الهمامي في المرتبة الـ 14 بنسبة 0.7 في المائة، وسبقه الوجه المعروف في الجبهة الشعبية منجي الرحوي الذي حصل على 0.8 في المائة. ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى حزب التيار الديمقراطي الذي احتل المرتبة الثالثة في الانتخابات البلدية، في عام 2018، غير أن مرشحه محمد عبو تأخّر إلى المرتبة العاشرة في الدور الأول من الاستحقاق الرئاسي، بنسبة أصوات لم تتجاوز 3.6 في المائة، تبعه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، ممثّل ائتلاف تونس أخرى، الذي حلّ في المرتبة 11 بنسبة 3.1 في المائة. وكان حزب المرزوقي، المؤتمر من أجل الجمهورية، قد أحرز المرتبة الثانية في انتخابات 2011 بـ 28 نائبًا.
مثّلت النتائج الضعيفة للنخب السياسية التقليدية التي هيمنت على المشهد السياسي التونسي - عقودًا في حالة البعض - صدمة وجاءت مخالفة لاستطلاعات الرأي. غير أنّ تقدّم المرشح قيس سعيّد، تحديدًا، وهو الذي يفتقد أيّ حاضنة تنظيمية أو ذراع إعلامية أو مصادر تمويل، يدل على مدى تغير الظروف التي حكمت الاستحقاقات السابقة، وانهيار «الماكينات» التقليدية التي كانت توجّه طيفًا كبيرًا من الناخبين. كما أنّ تفكك المنظومة السابقة وتعدد مرشحيها، وترهّل حركة النهضة بسبب مشاركتها في الحكم والخلافات التي شهدتها، في الأشهر الأخيرة السابقة لترشيح مورو، ونفور الرأي العام من الاستقطاب والتجاذبات التي طبعت السنوات الأخيرة، عوامل مهّدت الطريق أمام صعود قيس سعيّد، بدرجة أولى، ونبيل القروي، بدرجة ثانية. لقد اعتمد القروي في عمله القاعدي على كثير من المحسوبين على المنظومة القديمة، إلا أنّ العداء بينه وبين المرشحين الآخرين المحسوبين على المنظومة نفسها وإيداعه السجن، جعلاه، موضوعيًا خارجها.
وبعد لوم النخب السياسية على انفضاض الجمهور من حولها، لا يجوز أن ننسى أنّ العزوف عن التصويت والعداء للنخب السياسية والنفور من الخصومات الحزبية والبرلمان، ونشر التوقعات المبالغ فيها من النظام الديمقراطي ومعها الخيبات المبالغ فيها، جميعها من مظاهر عدم تجذّر الثقافة الديمقراطية.
خاتمة
مثّلت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية في تونس مظاهر أزمة مبكرة للنظام تتجسد في تشظي الخريطة الحزبية وسوء الأداء الاقتصادي؛ فإضافة إلى عدم الثقة بالأحزاب، شهدت الانتخابات تصويتًا احتجاجيًا على الواقع الاقتصادي. فكانت النتيجة تراجع النخبة السياسية التقليدية، حكمًا ومعارضةً، تراجعًا حادًّا، رغم القدرات التنظيمية والأذرع الإعلامية التي تسندها. وبصرف النظر عن الفائز في الدور الثاني، فإنّ المشهد السياسي التونسي دخل طور تغيراتٍ عميقة ويتجه إلى إعادة تأسيس نفسه على قواعدَ جديدة مختلفة كليًّا عن السابق. ويكمن التحدي في أن تكون الديمقراطية التونسية التي صمدت في جميع الامتحانات حتى الآن قادرة على استيعابها.
copy short url   نسخ
21/09/2019
585