+ A
A -
علي أنوزلا صحفي وكاتب مغربي
مرّة أخرى، يأتي الحدث من تونس، مهد ثورات الشعوب العربية، عندما شدّت إليها الأنظار ثلاثة ليال متتالية، نظمت خلالها مناظرات تليفزيونية على الهواء مباشرة، للسماح لمواطنيها لاكتشاف 26 مرشحًا للرئاسة قبل أسبوع من الجولة الأولى للتصويت على رئيس جديد للبلاد.
هذا الحدث، وهو نادر في منطقتنا العربية، بكل حمولته الرمزية، وضع تونس في مصاف الدول الديمقراطية، وأتاح للتونسيين وللعالم اكتشاف الوجه الآخر لتونس الثورة، حيث وقف المتنافسون يتبارون بشكل حضاري، يستعرضون برامجهم الانتخابية، بهدف إقناع الناخبين للتصويت لهم يوم 15 سبتمبر الجاري، موعد الجولة الأولى من الانتخابات السابقة لأوانها.
جاءت المناظرات التونسية لتذكّرنا بأن الثورة التونسية التي ألهمت شعوبا عربية كثيرة عام 2011 ما تزال قادرة على مفاجأتنا في كل لحظة بجديد وفريد. وكشفت بالدليل الملموس أن الديمقراطية التونسية الفتية ما زالت بخير، على الرغم من كل الصعوبات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية، والصعوبات الأمنية، التي تعرفها تونس. وأظهرت أن واحدا من أهم مكاسب الثورة التونسية هو جو الحرية الذي يجري فيه التنافس الانتخابي، والروح الديمقراطية التي تحلى بها المرشحون، واختزلتها صورتهم، عندما وقف الإسلامي واليساري والعلماني والقومي وأنصار النظام القديم جنبا إلى جنب، كل منهم يدافع عن مشروعه بأسلوب الإقناع والحوار، وبطريقةٍ حضاريةٍ راقيةٍ، قل نظيرها حتى في الديمقراطيات العريقة.
حملت هذه المناظرات السياسية التونسية معها عدة دروس. جاءت أولا لتذكّرنا بأن الثورة التونسية ما زالت تتجذر على أرض تونس الخضراء، على الرغم من محاولاتٍ يائسةٍ يقوم بها أعداؤها في الداخل والخارج، وبأن الانتقال الديمقراطي التونسي، على الرغم من التعثر الذي عرفه، وضع، منذ البداية، على المسار الصحيح في اتجاه العبور بتونس نحو نادي الديمقراطيات الكبيرة. الدرس الثاني الذي جاء هذا الحدث ليذكّرنا به أن الديمقراطية هي الحل، فبعد سنواتٍ من الفوضى والاضطرابات والمشاحنات السياسية والتخبط في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، اقتنع التونسيون بأنه لا سبيل لهم للعبور ببلادهم من حالة الغضب والفوضى التي أعقبت الثورة إلا بالعودة إلى التمسّك بالقواعد الديمقراطية، واعتماد أسلوب الحوار في الإقناع والاحتكام إلى الشعب، صاحب الإرادة والشرعية. وعلى الرغم من أن هذه المناظرات تأتي بعد نحو ثماني سنوات من قيام الثورة التونسية، وبعد تجربة انتقال ديمقراطي متعثرة، قوّضت ثقة التونسيين بالسياسة والسياسيين، وجعلت كثيرين منهم يعزفون عن المشاركة السياسية في الانتخابات السابقة، إلا أنها جاءت لتذكّرهم بأن إرادة الشعب التونسي هي التي ستقرّر في النهاية، وكان لعنوان هذه المناظرات رمزية كبيرة دالة، عندما اختار لها أصحابها عنوانا كبيرا يقول «تونس تختار»، في إشارة إلى التحوّل الكبير والهادئ الذي يشهده تطور الحياة الديمقراطية في تونس. فمن شعار «الشعب يريد» الذي رفعته الثورة عام 2011 إلى شعار «تونس تختار»، تكون تونس قد مرت من زمنين، عابرة من زمن الثورة، حيث كانت إرادة الشعب الفيصل، إلى زمن الديمقراطية التي تتيح للناس أن يختاروا في جو من الحرية من سيقود بلادهم طوال السنوات الخمس المقبلة. صحيحٌ أن النقاش لم يكن جذّابا، ولم تسجّل طوال المناظرات الثلاث لحظة قوية واحدة، تعكس مدى حرارة أجواء التنافس التونسي على أرض الواقع، وربما يعود هذا إلى «قواعد» التناظر التي التزم بها المرشحون، حيث منع عليهم الاحتكاك فيما بينهم، بل وحتى ذكر أسماء منافسيهم في أثناء حديثهم، ما أفقد المناظرات كثيرا من متعة المشاهدة، ولكن التمرين، في حد ذاته، يبقى حدثا متميزا مكّن التونسيين على الأقل من التعرّف على وجوه مرشحيهم الكٌثر، ومعرفة توجهاتهم والاطلاع على كيفية تفكيرهم.
(يتبع)
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
12/09/2019
293