+ A
A -
كان كاتبا فذّاً. ينحاز للحقيقة دائما. كان يرى في انحيازه هذا تجسيدا للضمير. كان يزدري من يصفهم بـ «الكتبة» وهم يستدرون العطف ليبقى الجيب «عامرا»، ونهر العطاء متدفقا. كانت لغته رصينة تطوع الارقام والشواهد لخدمة هدف المقالة أو التحليل الذي عادة ما يحدث صدى واسعا، يحشد أدلة لا تخطر على بال. يظهر محللا لا يشق له غبار، يتكئ على جعبة تكتظ بامهر الكلام.
فجأة أو هكذا بدا، اصبح هذا الفذ حالة مكثفة لـ«مثقف» عربي لا يواري كشف سوءته على الملأ. لا يهم ان يعلن من هذا المنبر ما يخالف ذاك أو يناقضه حتى التضاد. المهم ان يبقى الاسم رنانا والحساب في البنك متصاعدا. بفضل مهاراته تلك صار يحظى باستقبال الفاتحين في الاوساط جميعها، يجوب بلدان الدنيا نظرا لكفاءته العالية في النفاق «الثقافي». ترى من يستطيع ان يوقظ الضمير من غفوة تبدو ابدية؟! ترى ما هو الضمير اصلا في حالتنا تلك؟! يجيد هذا المثقف العربي فن المراوغة للتنقل من هذا الحضن إلى ذاك. لا يهم سوى البقاء في مقدمة المدعوين والمشاركين في المحافل الاجتماعية والاعلامية. ولأمانة الكتابة يجب ان يقال انه قارئ بدرجة محترف. مكتبته غنية ومعارفه لا حدود لها. بلسان طليق يتحدث اللغة الانجليزية التي توفر له سيل المعارف المهولة على الشبكة العنكبوتية وسواها من الكتب. هو ملاك بثوب شيطان. يسخر كل معارفه وثقافته وقدرته على التحليل في لي عنق الحقيقة. يحيل الابيض اسود. يقدس القائم ويلعنه في آن. ذلك يعود لانفصام بين بؤرة الصدق الدقيقة في جوانياته وشخصيته المدمرة. كانت لحظة الانكسار الأولى حين كتب ما ينم عن عمق في التحليل نبّه له اعين الرقابة التي وضعته تحت مجهرها. ولانه كان يدرك في أي اتجاه يسير، فقد كان كمن ينصب فخّا للرقابة التي استدرجها بخبث. ظل كامنا وفي كمونه ذاك كان يخرج بمقالة أو تحليل ليراكم سيرة ذاتية حافلة بالاحمر أو الاسود لدى من يهمه الامر. كان يدافع باستماتة عن أهمية تمسك المثقف بموقفه الذي يجعله عدوا للسلطة وما يستتبع ذلك من اثمان. جسورا كان في آرائه الجازمة. كان منحازا لمغادرة المثقف برجه العاجي. فهموم المجتمع وقضاياه هي المهمة الأولى التي يجب ان يتصدى لها اصحاب المعرفة وألا تصبح معرفتهم محض ثرثرة. فالمثقف عنده هو من يجعل من الناس وهمومهم قضيته الاولى. كانت يردد ان المنظومة الاخلاقية تشكل الحصن الذي يستند اليه المثقف في دوامة الحياة وصراعه مع السلطة. كان يهاجم بضراوة من يسميهم «مثقفي السلطة» بصفتهم مطايا للسياسي، أي سياسي. وللامن كذلك. مع توالي الايام صار له مريدون ومتابعون ينزلونه منزلة القداسة لكثرة ما اطنب في قدح الاستبداد والظلم الذي يلحق بالغلابى. بكلمة؛ كان الرجل عبارة عن برنامج سياسي يخطف الانظار والالباب. كان يهاجم بشدة الاكاديميين الذين لا ينهضون بدور التنوير لتصير الجامعات ودور العلم منارات للعقل ومحاربة الاستبداد. هنا؛ ولدى تناوله دور الجامعات كانت لحظة انتهاء المهلة التي منحت له. فبليلة بلا نجوم جاءه زوار الفجر. اقتادوه إلى حيث خطط ان ينتهي هو نفسه. غاب اسبوعا استنفر خلاله الاصدقاء ومتابعوه. محاولات الضغوط النخبوية وتلك التي كانت اوسع لم تجد نفعا. ومع انتهاء الاسبوع خرج صاحبنا «مكللا بالغار». حدث مريديه وزواره عما واجهه من اهوال. أكد أن ذلك يهون من اجل تحرر المجتمع من الاستبداد. ارتفعت منزلته فصار قبلة لكل اصحاب الرأي.
مرت بعد ذلك فترة بيات صيفي أو شتوي لا ضير أنّى كان موسمها. امتنع عن الكتابة على الرغم من الالحاح المتواصل من متابعيه. استجاب بعد لأي. فكتب يحلل أهمية «الوسطية» في الطرح السياسي والايديولوجي. غادرت نصه مصطلحات «الاستبداد» و«القهر» و«الديكتاتورية». صارت تتردد على لسانه مفاهيم جديدة في طليعتها «، فهم دوافع اتخاذ القرار» و«الكرسي ليس مغنما في بلد فقير»، اضافة إلى الحاحه المستمر على أن ظروف البلاد والعباد تختلف عما هي في بلدان اخرى، و«نحن بلد محدود الامكانات» و«ظلم الجغرافيا للبلد حين حشرته في وسط ملتهب».
وبخلاف ما كانه، صار يردد ان مقولة جان بول سارتر، بأن مهمة المثقف تكمن في إزعاج السلطة، لا تفيد دائما في مثل ظروف بلادنا. اخيرا ابتكر مصطلح «الصراع الطبقي لم يتبلور بعد في بلادنا». هنا بدأ التحول العميق لكن في الجهة المغايرة لماضيه. هذا المثقف «البنيوي» كما كان يحلو له ان يصف ذاته، تحول بسرعة خاطفة إلى «مستشار» فوزير متنقل بين هذه الوزارة وتلك.
صار صاحبنا من أهل الحظوة فغاب الناس والهموم العامة عن اهتماماته، أليس ذلك هو «مثقف السلطة»؟!
copy short url   نسخ
12/08/2016
788