+ A
A -
لكي تعرف سلطنة عمان، لا بد أن تزورها، حتى تتعرف على شعبها وشعابها، وخصائصها وخصالها، وتاريخها وتراثها، وجغرافيتها وجاذبيتها، التي تجذبك كالمغناطيس إليها، فتنجذب إلى جمالها وجبالها وجلالها.
.. وتعجب بالصفات الإنسانية النبيلة، والقيم الأصيلة، التي يمتاز بها إنسانها، وتميز ناسها، وهذا سر «وناستها» وإنسانيتها.
.. ولقد توفرت لي الفرصة، لأكون في حضرة «حاضرة حواضر» السلطنة، هناك في «صلالة»، تلبية لدعوة كريمة تلقيتها من وزارة الإعلام العُمانية، حاضراً في صميم «المشهد الظفاري»، شاهداً على تحضر العُمانيين، وحضارتهم، وحضورهم السياحي على خريطة السياحة الخليجية.
هناك، في الجنوب العماني، انطلقت رحلتي فائقة السحر، إلى «صلالة»، تلك المدينة الساحرة، بمكانها وكيانها ومكوناتها الطبيعية، التي تسحرك بموقعها وواقعها ووقائعها، حيث تختلط فيها جغرافيا التاريخ، وتاريخ الجغرافيا!
هناك تشعر أنك في ضيافة الجغرافيا، وفي ضيافة التاريخ، وفي ضيافة الإنسان والمكان والزمان، وفي ضيافة العروبة الأصلية، وفي ضيافة الأصالة العربية، التي تحيط بك من كل جانب، وتأسرك بكل جاذب، من كرمها ومكارم أهلها.
هناك، رغم أنك قطري، ترتدي «الغترة والعقال»، الذي يمتاز بوجود «الكراكيش»، تشعر أنك «عماني»، دون أن ترتدي حول خصرك خنجراً عمانياً!
.. وتشعر أنك «ظفاري»، تتحدث اللهجة «الشحرية»، دون أن تضع فوق رأسك «مصراً»، يرمز إلى أصالة العمانيين!
هناك كنت، حيث كنت هناك، في «صلالة» التي كانت تمارس السباحة على سواحلها، بين قوافل الأمواج، وحيث كانت تمشط شعرها الطويل، المنساب على ظهرها، وسط الأفلاج!
هناك، حيث تسكن «صلالة» في الجنوب العماني، وسط سكون جبالها الخضراء، أمضيت أياماً في عُمان، حاضراً فعاليات مهرجان «الخريف» السنوي، الذي يعد واحداً من أهم المواسم السياحية الجاذبة في المنطقة، بفضل اعتدال الطقس في محافظة ظفار، في وقت تعاني فيه أجواء الخليج، من ارتفاع درجات الحرارة التي تصيبك بالاعتلال.
عدا ملاءمة مهرجانهم لسياحة العائلات، وامتيازه، بل تميزه بتنوع المقاصد السياحية، وتعددها، حيث تمتاز «صلالة» بجبالها الخضراء، وسهولها المنبسطة مثل بساطة العمانيين، وسواحلها ذات الرمال الناعمة، وينابيعها المتدفقة بالمياه الرقراقة.
.. ولهذا أدعو القطريين جميعاً، لتوجيه بوصلة سفرهم الصيفي مستقبلاً نحو «صلالة»، لتوفر جميع مقومات السياحة العائلية الجاذبة والجذابة.
هناك، حيث يتواصل هطول الأمطار الخفيفة، وينتشر الضباب ليعانق السحاب، وتكتسي أوديتها اللون الأخضر، على مد البصر، وتتدفق العيون المائية المنتشرة في كافة ربوعها، وتعزف نافوراتها الطبيعية ألحان الطبيعة، انطلاقاً من كهوفها المتعددة، الممتدة براً وبحراً.
هناك، وسط جمالية المكان، كنت في «أرض اللبان»، وأشجاره التي لا تشبه إلا نفسها، حيث لا تنمو إلا في سلطنة عمان!
هناك، في «صلالة»، حيث الرذاذ الماطر يستقبلك، منشداً لك «أنشودة المطر»، فيمنحك انتعــاشــاً لا حدود له، بعـيـداً عن حرارة الصيف اللاهبة، التي نعاني منهـــا في قــطـر، وسائر دول المنطقة.
هناك لا حرارة، إلا حرارة استقبال العمانيين لضيوفهم، وخصوصاً القطريين، حيث يرتبط الشعبان الشقيقان القطري والعماني بعلاقة أخوية وطيدة، تزيدها الأيام رسوخاً، وتزيدها الأحداث تواصلاً لا ينقطع، وتفاعلاً لا ينتهي.
.. وما من شك، في أن علاقات قطر مع شقيقتها «السلطنة»، ازدادت عمقاً على عمقها، وتزايدت تعمقاً وتعلقاً، بل تعملقاً في «زمن الحصار»، فأصبحت تمتاز بثباتها وثوابتها، واستقرارها واستمرارها.
.. وفي إطار هذه الاستمرارية، لا يمكن لأي مواطن قطري أن ينسى الموقف العماني المشرف، الذي اتخذته سلطنة عمان تجاه الأزمة الخليجية، حيث التزمت بحيادها الإيجابي - كعادتها - دون الانجرار لهذا الطرف، أو الانجراف نحو ذاك، ودون الانحراف عن حزمة «المبادئ القابوسية»، التي أرساها السلطان قابوس بن سعيد - حفظه الله - فأصبحت تشكل «قبساً» من نور لأشقائنا العُمانيين، ونبراساً في تعاملهم مع سائر الأمور.
.. وما من شك، في أن مبدأ «الحياد الإيجابي»، ليس موضوعاً طارئاً على السياسة العمانية، ولا أمراً مؤقتاً، لكنه يعد واحداً من ثوابت «السلطنة»، وهو يرتبط بدبلوماسيتها كارتباط العُمانيين بخنجرهم، الذي يتوارثونه جيلاً بعد جيل.
.. ولا أضيف جديداً، عندما أقول، إن السلطان قابوس، استطاع برؤيته الثاقبة، وقراءته الواعية لما يحدث في المنطقة من أحداث، وتقلبات وتحولات وأزمات، الحفاظ على علاقات بلاده، مع دول الإقليم الخليجي جميعها، دون أن تشوبها شائبة.
.. ويأتي ذلك، انطلاقاً من إيمانه بمبدأ «التعايش السلمي»، بين دول وشعوب المنطقة، بدلاً من التناوش، أو «التهاوش»، وحرصه على حسن الجوار مع الجميع، عرباً وعجماً، وعدم الانجرار للتدخل في شؤون الآخرين، واحترام خصوصيات كل دولة، وشعبها، وسياستها وسيادتها.
.. ولعلكم تلاحظون، أن «السلطنة»، رغم قربها الجغرافي من اليمن، وحدودها المتاخمة لحدودها، ووجود قبائل عمانية - يمنية مشتركة، تجمعها أواصر القربى والمصاهرة والجوار.. ورغم أن «عاصفة الهدم» في اليمن، تنعكس آثارها على الأمن القومي العماني، إلا أن سلطنة عُمان، لم تورط نفسها بالانزلاق في الهاوية اليمنية السحيقة.
.. ولم تسعَ «السلطنة» لفعل ما يفعله غيرها، عبر محاولاتهم فصل الشمال اليمني عن جنوبه، بل ظلت حريصة على وحدة اليمن، أرضاً وشعباً وكياناً سياسياً واحداً موحداً، واحترام خصوصيات شعبه، دون محاولة فرض إرادتها، ووصايتها على اليمنيين.
.. ولعل ما يميز السياسة العمانية، في عهد «قابوسها»، أنها تنأى بنفسها عن إشعال الأزمات، وإثارة الخلافات، أو النعرات، أو الصراعات أو الصدامات في المنطقة.
.. وبهذه السياسة العقلانية الرصينة، جنب «السلطان قابوس» بلاده،الدخول في «هوشات» المنطقة، وأزماتها وحروبها، ولم يُظهِر انحيازاً، إلا لمصلحة «السلطنة» وشعبها وأمنها واستقرارها.
.. وهذه العوامل الإيجابية كلها، جعلت سلطنة عمان، غير قابلة للانحياز، أو الابتزاز خلال الأزمة الخليجية.
.. وفي إطار هذه الحقيقة، امتازت العلاقات القطرية - العمانية، بالخصوصية والقوة والمتانة، فلم تزدها الأوضاع السياسية المضطربة، التي تشهدها المنطقة، إلا متانة على متانتها.
.. وبكل الامتنان، أقولها بصراحة، بل بمنتهى الصراحة، إن الأزمة الخليجية أظهرت أصالة معدن الإنسان العماني الأصيل، وسلوكه النبيل، وتعامله الجميل، خلال حصار قطر.
.. وهذا الأمر ليس غريباً ولا مستغرباً من الأشقاء في السلطنة، الذين توارثوا نبل أخلاقهم من القيم النبيلة، المتوارثة من جلسات «السبلة العمانية»، وهي مجلسهم التقليدي، الذي يستقبلون فيه ضيوفهم ويمارسون خلال جلساته كرم الضيافة.
.. وتلعب «السبلة» دوراً في تأصيل أخلاق الإنسان العماني، الذي عُرِف عبر تاريخه بدماثة الخلق، ونكران الذات، والإيثار و«الفزعة» لمساعدة الجار.
.. وعلى هذا الأساس، لا يمكن إنكار أن سلطنة عمان ساعدت قطر على كسر الحصار، من خلال سلسلة الإجراءات العُمانية الإيجابية، الداعمة للاقتصاد القطري.
.. ويكـفـي القول إن الأشقــاء العمــانيين قدموا كافة التســهيلات المطلوبــة، لدعــم القطاع الاقتصادي القطري، عن طريق تلبية احتياجاته من الإمدادات الغذائية، وتوفير متطلبات المشاريع الحيوية قيد الإنشاء.
عدا فتح منافذهم، لتسهيل حركة الملاحة البحرية، حتى لا تتأثر بالإجراءات التعسفية، التي اتخذتها دول الحصار ضد قطر.
.. ونحمد الله أن الأوضاع الراهنة، ولا أقول الواهنة، في خضم الأزمة الخليجية، أعادت توجيه البوصلة القطرية إلى موقع السلطنة كخيار استراتيجي مهم، بعدما ساهم حصار قطر، في إعادة رسم الخريطة الاقتصادية من جديد.
.. وما من شك، في أن الموقع الاستراتيجي، الذي تحظى به سلطنة عمان، جعل منها مركزاً للاستيراد، ومعبراً للتصدير بالنسبة إلى قطر.
.. وبعيــداً عن هـذا وذاك، سـيبقـى موقف العمانيين المشــرف الداعــم لمنتخبـنــا الوطـنـي لكرة القدم، محفوراً في الذاكرة، عندما بادروا طواعية، لتشجيع فريقنا «الأدعم»، وقدموا كل سبل الدعم الجماهيري، في بطولة آسيا، التي أقيمت في «دار زايد»، بعدما حرمت سلطاتها المتسلطة، الجمهور القطري من الحضور، بشكل يخالف مبادئ المنافسة الرياضية الشريفة.
.. ورغم أن الحُكم على شخصية شعب من الشعوب، ليس أمراً سهلاً، ويحتاج إلى تقييم عميق، وتحليل دقيق، لكنني أستطيع القول، إنه مثلما سأظل دوماً أرفع شعار «تميم المجد» فوق رأسي، ولاء ووفاء، والتزاماً واهتماماً واحتراماً، فإنني سأبقى دائماً مفتوناً بصفات ومواصفات الشخصية العمانية، التي تجسدها شخصية «السلطان قابوس»، متطلعاً بإعجاب، إلى أن أكون «قابوسي» التفكير، «قبسي» التنوير، نسبة إلى «القبس» المنير، محاولاً النظر إلى قضايا المنطقة، من خلال المنظور المستنير.
.. وفي إطار الاستنارة العمانية، أصبح الإنسان العماني متصالحاً مع ذاته، متواضعاً مع محيطه، متسامحاً مع الآخر، متجاوزاً سلوكه الغادر!
.. ولهذا نجده يصفح خطيئة الجار، المتورط عام 2011 في «التجسس»، رغم إصرار ذلك «المتجسس»، على نبش تاريخ لا يملكه، لدرجة الادعاء بانتساب «القائد الأزدي» العُماني لدولته، وهو «المهلب بن أبي صفرة»، متجاهلاً أو جاهلاً أو جهولاً، أنه من فروع «شجرة الأزد»، التي زرعها في إقليم عمان، جدهم الأكبر مالك بن فهم الدوسي الأزدي، ذلك القائد المحنك، الذي يمثل نواة «السلالة الأزدية» الحاكمة في عمان، ويرتبط اسمه بواحدة من أهم المعارك الكبرى، الحاسمة في التاريخ العربي قبل الإسلام، وهي معركة «سلوت» الشهيرة، التي أدت إلى تحرير الإقليم العماني من السيطرة الفارسية، وجاء من نسله الإمام أحمد بن سعيد بن أحمد البوسعيدي الأزدي، المؤسس الأول لدولة «آل بوسعيد» في السلطنة، وينحدر من ذريته السلطان قابوس بن سعيد ، داعيا الله عز وجل، أن يمده بالشفاء الكامل والشامل ، ويمتعه بموفور الصحة والعافية، والعمر المديد، لتبقى سلطنة عمان الشقيقة شامخة دوما ، في عهد «سليل البوسعيد» . أقول هذا بلساني ، وأكتبه في مقالي ، مستهلا قولي بعبارة «إيه يواب ، يا أهل اليواب»، على طريقة فن «العازي» العماني، الذي يحرك موجات الفخر، ويبث روح الحماس ، في نفوس الناس، هناك في عمان ، حيث تكمن ارتعاشات السيوف ،وصولات البنادق ، المرفوعةعاليا في أيدي الرجال.
هناك في بلد قابوس ، عالي النسب ،الذي نالت بلاده بحكمه وحكمته علياء الرتب ، حيث المجد له مكان في عمان ، من ماضي الزمان ، بعيدا عن سطو «الجار المتسلط» على هذا الموروث الثقافي الحضاري العماني الاصيل ، وإلصاقه بتراثه الهزيل ، رغم أن هذا التراث الإنساني الجميل، تربى على سماعه العمانيون، جيلا بعد جيل ، الذين سبقوا غيرهم في تسجيله رسميا ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي ، المعتمدة في اليونسكو منذ الخامس من ديسمبر عام 2012، أي قبل أكثر من 6 أعوام تقريبا ، وقبل أن يفكر الباحثون عن تاريخ وأمجاد حضارية في إلصاقه بتراثهم !
.. وعندما يتوقف المرء عند هذه الحقائق التاريخية، يكاد يسمع صهيل الخيول، وصليل السيوف، عندما احتدم الوطيس، في معركة «سلوت» الحاسمة بين «الأزديين» والفرس.
هناك، في أقصى الشرق العماني، يأتيك من بعيد، من المنطقة التي دارت فيها تلك الواقعة الطاحنة، بالقرب من ولاية بهلاء، كما يأتيك من «قلهات»، أول عاصمة لعُمان قبل الإسلام، التي تعاقبت عليها الحاضرات، منذ أن نزل بها «مالك بن فهم»، وجموع قبيلته التي حكمت عمان.
لكن ما يستعصي على الفهم، ويتجاوز حدود التفاهم، هو تنصل الجار المتورط في «الجاسوسية» من «عمانيته»، في إطار بحثه عن دور، أي دور في المنطقة، حتى لو كان الدوران حول نفسه، ثم الوقوف منتشياً أمام خريطة زائفة، في «متحف اللوفر» فرع أبوظبي، تفتقد إلى عمق تاريخي، أو سياسي أو حضاري، ولهذا ينطبق على ذلك الجار المجرور إلى نرجسيته، قول «مالك بن فهم» زعيم «الأزد» الأسطوري، في بيته الشعري الشهير:
«أعلمه الرماية كل يوم.. فلما اشتد ساعده رماني»
«وكم علمته نظم القوافي.. فلما قال قافية هجاني».
.. ولعل ما يدفعني إلى هذا القول، أن الإمارات كانت معروفة دوماً بأنها تتبع عمان، بشكل كامل في معظم تاريخها.
.. وكان اسمها حتى وقت قريب «الإمارات المتصالحة»، المستلقية على الساحل العماني، تحت مظلة حكام عمان، الذين سيطروا على حركة الملاحة البحرية، ونجحوا في محاربة البرتغاليين، أجداد كريستيانو رونالدو عام 1624، وساهموا بقوتهم في تحرير «جلفار»، من قبضتهم عام 1633، بــقــيــادة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي ، ثـــم صــارت المدينــة العمانية المحررة تحمل اســـم «رأس الخيمة».
.. وبعيدا عن ذلك «الرأس»، لا ننسى ادعاءات الجار «المتلصص»، بأحقيته الزائفة، في «الرؤوس» العالية في «مسندم»، معتمداً على الادعاءات الباطلة والخرائط المزيفة.
.. ورغم ذلك، نجد العُماني يغفر للأحمق علته، والسفيه غلطته، والمتعجرف غلظته، وبهذا نال عزته ورفعته ومكانته الرفيعة بين شعوب المنطقة.
.. ولا يحتاج العماني إلى إشادة مني، أو شهادة من غيري، بأنه اعتاد على الترفع عن الصغائر وأصحابها الصغار، حيث نجده دوماً يتعامل بكرامة بلا تكبر، وكبرياء بلا مكابرة، وتواضع بلا رياء.
.. ودائماً يتسم سلوك العمانيين بالشهامة، والانتصار إلى الحق، وهذا ما لمسناه منهم خلال الأزمة الخليجية، في إطار حيادهم الإيجابي، بعدما ضربوا أمثلة رائعة في التعاون والتعاضد والتضامن والتلاحم مع أشقائهم القطريين، انطلاقاً من روح الشهامة العمانية المتوارثة، التي تسري في عروقها النخوة العربية، والأخلاق اليعربية، والقيم «البوسعيدية».
.. ومن خلال هذه المعادلة، بقيت سلطنة عمان على امتداد تاريخها العريق، رقماً صعباً في الإقليم الخليجي، بعدما خلقت لنفسها وشعبها معادلتها الخاصة، في التعامل مع الجيران، المستمدة من الانفتاح «السلطاني» على البحر، وسبر أغواره، والارتحال العماني في البر، واكتشاف أسراره.
وفي إطار هذه المعادلة، أصبح العماني صلباً في مواجهة التحديات، مثل صلابة الجبال الظفارية، سلساً في تعامله الأخوي، مثل سلاسة السهول المنبسطة في صلالة، عدا الأمواج، التي لا تنتهي من الأخوة الصادقة، المتدفقة في داخله، كتدفق أمواج المحيط، عندما ترسو على سواحل ظفار، ووسط هذا الزخم العماني، والنغم الظفاري، كنت ضيفاً في «صلالة»، حيث تسكن في ربوعها الأصالة.
.. ولعل ما يميز هذه «العروس الظفارية»، أنه بمجرد أن تطأ قدماك أرضها، حتى تستنشق عبوات من عبق «اللبان»، التي تفوح في أرجاء المكان، فتشعرك بالراحة والأمان، وتشعر أنك تحلق بعيداً عالياً، هناك فوق سفوح «جبل سمحان»، حيث تنمو أشجار ذلك «الذهب العماني» الأبيض، الذي يندر وجود أشجاره، في أي مكان آخر من أرجاء العالم.
هناك كنت ضيفاً، حيث تنمو الأشجار التي لا مثيل لعطائها، وحيث يولد من رحمها، أو لحائها «اللبان الحوجري» الفاخر، نسبة إلى «حوجر»، الواقعة فوق مرتفعات ذلك الجبل الشاهق الارتفاع، الذي يبلغ أقصى ارتفاعه 2200 متر فوق سطح البحر.
هناك في الجزء الشرقي من سلسلة جبال ظفار، بين المرتفعات العالية، والأودية الضيقة، ذات الانعطافات، والالتواءات، والانحدارات والممرات المتعرجة، صعوداً وهبوطاً، شق الإنسان العماني طريقه قبل مئات السنين، لنقل «اللبان الظفاري» إلى الحضارات القديمة.
هناك حيث توجد حقول «الذهب الأبيض»، التي سبقت شهرتها العالمية «الذهب الأسود»، حظـيت شــجرة «اللبـان»، بحضور تاريخي هائل في سلطنة عمان، جعل منها جسراً للتواصل مع الأمم العتيقة، بعدما تحركــت إليها قـوافــل التجار العمانيين شرقاً وغرباً، تحمل ثمار «الشجرة الظفارية»، الظافرة بلبانها، وتنقلها إلى ممالك العالم القديم، من ميناء «سمهرم» العتيق، بعد استخراج أجود أنواع «اللبان» من مرتفعات «جبل سمحان».
..وربما أكثر ما يميز ذلك الجبل الشاهق الارتفاع،إضافة إلى كونه موطن أشجار «اللبان الحوجري» الأكثر جودة، فإنه وطن «النمر العربي»، الذي ساد اعتقاد خاطئ أنه بات منقرضاً!
هناك فوق المرتفعات وفرت السلطات العُمانية محمية طبيعية، تبلغ مساحتها 4500 كم مربع، توفر الملاذ الآمن لسلالة باقية من النمور العربية، حرصت الجهات المختصة، على حمايتها من الصيد، وعدم تعرضها لقنص الصيادين، مع الحرص على حفظ سلامة المواطنين، وحيواناتهم في الوقت نفسه.
وهكذا، وفي الوقت الذي اختفى فيه النمر العربي، من معظم أرجاء شبه الجزيرة العربية، فإنه لا يزال حاضراً في جبال ظفار، يمارس حياته الطبيعية، وسط الطبيعة الظفارية، محافظا على التوازن البيئي، بعيداً عن تحديات الانقراض، ليبقى دائماً مستعداً للانقضاض.
.. ولعل المفارقة، أنه بعد اختفاء النمور العربية، من الإمارات والسعودية، إثر تعرضها للانقراض، فقد تحولت قيادات أبوظبي والرياض، إلى حالة غير مسبوقة من «التنمر السياسي» ضد قطر، عبر ممارسة «دبلوماسية الانقضاض» المتمثلة في فرض الحصار الجائر على الدوحة!
.. وبعيداً عن الحصار، الذي تدفعه إرادة القطريين الصلبة، نحو الانكسار، أعود إلى ظفار، التي مثلما اشتهرت دوماً بإنتاج اللبان، فإنها تشتهر أيضاً بإنتاج أفضل أنواع السلالات العربية من «الإبل» الأصيلة.
.. وفي إطار التوجيه السامي، لحضرة «السلطان قابوس» بضرورة الاهتمام بالتراث العماني، والمحافظة عليه، وخصوصاً الذي تلعب فيه «الإبل» دوراً بارزاً، ازداد اهتمام العُمانيين بالهجن «الأصايل»، وظهرت عندهم سلالات تمتاز بقوة تحملها، وجمال شكلها، وغزارة حليبها، وتنوع ألوانها، وسرعة حركتها.
كما ظهر عندهم، من أبناء قبائلهم، «مضمرون» يملكون قدرات تكتيكية هائلة، في مجال تدريب الهجن على سباقات السرعة، أذكر منهم المضمر حمد بن محمد بن سالم الوهيبي، ممثل السلطنة الدائم في سباقات الهجن الخليجية، الذي لا يقل في دهائه التدريبي، عن المدرب البرتغالي القدير «مورينو»، أو نظيره الإسباني الشهير «جوارديولا»، أو المدرب البرازيلي الكبير أدينورليوناردوباتشي، المعروف باسم «تيتي»، الفائز مع منتخب بلاده ببطولة «كوبا أميركا» الشهر الماضي.
.. ولعل ما يدفعني لقول ذلك، الإنجاز التراثي الكبير، الذي حققه هذا «المضمر»، عندما نجح في انتزاع «الناموس» العام الماضي، والفوز بجائزة مهرجان «الملك عبدالعزيز» في السعودية.
.. وتمثل تفاصيل ذلك الفوز المثير، قصة لا تنسى من قصص النجاح، ستبقى راسخة في أذهان عشاق سباقات الهجن، داخل عُمان وخارجها، بعدما تصدرت المقدمة «ناقة ظبيانية»، كانت على بعد أمتار من الفوز، الأمر الذي دعا المعلق، لإطلاق وصلات المديح قائلا:
«من لها غيرك يا بوزايد، من لها غيرك يا محمد بن زايد، أتعبت التاريخ والله، أتعبت المنصات».
.. وبينما كان المعلق، يزايد في مديحه الزائد، انطلقت الناقة العُمانية «سمهرم» من الصفوف الخلفية، مثل خنجر عماني، تم تصويبه بدقة نحو هدفه، لتتجاوز منافستها الظبيانية، وتسبقها وتفوز بالجائزة الكبرى، التي جعلت المعلق يصاب بصدمة حضارية، تحول خلالها من التطبيل إلى العويل، وهو يقول من فرط الدهشة:
«يوووووه، يوووووه، يوووووه، أهالي السلطنة يقدمون في اللحظات الأخيرة «سمهرم»!
.. وهكذا فازت الناقة العُمانية، التي تحمل اسم الميناء العتيق «سمهرم»، بشوط الرمز الذهبي، المخصص للثنايا بكار، لتبقى الهجن العمانية رائدة، في مجال السباقات التراثية، المرتبطة بهذه الرياضة، ويبقى منافسوها يضرسون الحصرم، ويلعقون العلقم، ويعضون أصابع الندم!
.. وستبقى رؤوس العمانيين دائماً مرفوعة عالياً، بارتفاع «رأس مسندم»، حيث تحتضن سلطنة عمان، خيوط الشمس الأولى، في صباحات «مضيق هرمز»، هناك في المحافظة العمانية، التي يسمونها «مسندم».
copy short url   نسخ
13/08/2019
1402