+ A
A -
جمال الهواري كاتب وصحفي مصري
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الـ24 لأكبر مجزرة في تاريخ أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مذبحة «سربرينيتشا» تلك البلدة البوسنية المسلمة المسالمة والتي شهدت في يوليو 1995 واحدة من أفظع حالات التطهير العرقي المتعمد والممنهج ووصمة عار ستظل في جبين أوروبا والأمم المتحدة تصل لشبهة التواطؤ حين أباد جيش صرب البوسنة بزعامة رادوفان كراديتش وراتكو ملاديتش تحت أنظار الجميع أكثر من 8000 مسلم بين رجال ونساء وأطفال وعجزة في جريمة لا تسقط بالتقادم، وكلما مرت الأيام تجددت الآلام لتذكر العالم الغربي والأمم المتحدة أنه كان بالإمكان وقف تلك المذبحة لو لم تكتفي تلك الأطراف بموقف المتفرج والتي يبدو أنها الوقفة المفضلة حين يكون الضحايا مسلمين.
في بداية التسعينيات وعقب سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار المعسكر الشرقي «الشيوعي»، وبديلًا عن الفدرالية التي أسسها الجنرال جوزيف تيتو عام 1941 ودشنت فعليًا عام 1943 ثم أصبح يعرف باتحاد الجمهوريات اليوغسلافية الشعبية، وكان يضم بجانب البوسنة والهرسك كلا من صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا، وتطلعت الشعوب المكونة لهذا الاتحاد إلى الاستقلال عنه خصوصًا وأنه كان واقعًا تحت الهيمنة الصربية وتهميش بدرجات متفاوتة للقوميات الأخرى، وقبل أن ينتهى العام 1990 أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما مستبقين الأطماع الصربية في ضم جميع أقاليم الكونفدرالية المنهارة تحت سلطة الصرب من جديد وهو ما شجع باقي العرقيات على القيام بنفس الخطوة لتعلن مقدونيا والبوسنة والهرسك في 1992، وكان من الملاحظ الصمت والتسامح الصربي نسبيًا مع استقلال الدول الثلاث (كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا)، لكن لم يكن الصرب على استعداد لتقبل استقلال البوسنة بأغلبيتها المسلمة والتي مثل شعبها السلافي استثناءً بين شعوب أوروبا باعتناقهم الإسلام بكثافة وعن اقتناع حين فتح العثمانيون معظم أوروبا الشرقية ووصلوا إلى أبواب فيينا بداية من القرن الـ15، وربما الارتباط القوى بين مسلمي البوسنة والدولة العثمانية والدين الإسلامي كان ولا يزال عاملًا هامًا ومؤثرًا في نظرة وتعاطي الأوروبيين معهم وانتهاج أوروبا والأمم المتحدة لسياسة اليد القصيرة والعدالة العرجاء في التعامل مع المسلمين طوال فترة الحرب وحتى بعد أن وضعت أوزارها عبر التراخي والتباطؤ في إلقاء القبض على مجرمي الحرب من الصرب وطول فترة محاكمتهم فيما بعد، وهو ما يعد بمثابة البرهان الساطع والدليل القاطع على سياسة المجتمع الدولي في الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بالمسلمين مهما كانت عرقيتهم أو مواطنهم ودولهم من أفريقيا لآسيا وصولًا لأوروبا والبلقان.
حدثت المذبحة رغم وجود التحذير الذي أطلقه مجلس الأمن نفسه قبلها بعامين كاملين وقدر عدد الضحايا المحتملين بـ 25 ألف ضحية إذا دخلت القوات الصربية بلدة سربرينيتشا، ولم يمنع حدوثها تواجد قوات حلف الناتو والتي كانت مخولة للتدخل من أجل إيقاف أي اشتباكات أو أعمال مسلحة في تلك المنطقة وقوات الأمم المتحدة والتي كانت تتمتع بصلاحيات طلب الدعم الجوي لقصف أي قوات عسكرية تحاول تغيير الوضع القائم أو استهداف المناطق الآمنة ولكن تم التغاضي عن تلك الميزة الهامة والاستراتيجية بعد أن قامت قوات صرب البوسنة باحتجاز 400 فرد من قوات الأمم المتحدة «الكتيبة الهولندية» كرهائن ردًا على ضربة جوية سابقة وضمانًا لوقوف قوات الأمم المتحدة موقف المتفرج وتغض الطرف عن المذبحة المتوقعة القادمة وقد كان. وحدثت المذبحة رغم مراقبة طائرات الاستطلاع الأميركية ورصدها لتحركات القوات الصربية بما فيها الدبابات تجاه البلدة وأوضحت الكثير من المصادر الأميركية لاحقًا أن المخابرات الأميركية (CIA) كان مطلعة على ما يحدث في ما يشبه البث الحي الذي تنقله طائرات الاستطلاع والأقمار الصناعية وأبلغت القيادة البوسنية بعثة الأمم المتحدة في سراييفو في 8 يوليو أن هناك إبادة جماعية على وشك أن تحدث في سربرينيتشا ولم تلق البعثة بالًا أو تهتم بهذا بل قبلها بيومين ورغم كل التقارير التي أكدت نية قوات صرب البوسنة على اقتحام البلدة والقيام بالتطهير العرقي لتصفية تواجد المسلمين فيها، اجتمع في جينيف بمقر الأمم المتحدة المبعوث الأممي ياسوشي أكاشي مع الجنرالان قائدا قوات حفظ السلام في البوسنة سميث وجانفييه وطلب من سميث العودة إلى عطلته في جزيرة كوركولا الكرواتية وذهب أكاشي «الشخص الوحيد القادر على إعطاء الأمر بضربات جوية» إلى دوبروفينيك على الساحل الأدرياتيكي لأخذ عطلة هو الآخر وحين حدثت المذبحة بعدها بأيام قليلة لم يصرح بأي شيء.
بقلم: جمال الهواري
copy short url   نسخ
19/07/2019
792