+ A
A -
سيف الدولة حمدنا الله كاتب سوداني
هناك فهم شائع ولكنه خاطئ بأن الحصانة - كما يُوحي اسمها - تُحصِّن صاحبها وتمنع عنه المساءلة القانونية عن أفعاله، والصحيح أن الحصانة (فيما عدا الحصانة الديبلوماسية) هي مُجرّد نقطة تفتيش توفر حماية وقتية بالمدى الذي يلزم للتأكد من أن الفعل المنسوب لصاحبها قد وقع خارج نطاق المصلحة التي شُرّعت من أجلها الحصانة.
وحكمة تشريع قواعد الحصانة في كل قوانين العالم (فيما عدا الديبلوماسية أيضاً ونعرض لها لاحقاً) هي تمكين فئة مُحدّدة على سبيل الحصر من الموظفين العموميين (الرؤساء والقضاة وأعضاء البرلمان) من القيام بواجباتهم الوظيفية دون تعرضهم للمساءلة عن الأخطاء التي تحدث منهم بحسن نية أثناء أدائهم لأعمالهم الوظيفية أو بسببها، ولا تكون لهم أية حصانة فيما يُجاوز ذلك من أفعال وأقوال. والحصانة المعروفة في القانون هي الحصانة الرئاسية، وتشمل رئيس الدولة ومن يُباشر مهامه (النائب أو النوّاب)، والحصانة القضائية وتشمل القضاة وأعضاء النيابة والحصانة البرلمانية لأعضاء البرلمان، ولا وجود في قوانين العالم (بما في ذلك السودان في فترة ما قبل الإنقاذ) لأنواع الحصانات التي شملت ما يُسمّى بالدستوريين من ولاة ووزراء ومُعتمدين، كما لا توجد حصانة لأفراد القوات النظامية.. إلخ.
والقاعدة الأولية أن الحصانة لا تسري في حالة التلبُّس بارتكاب جريمة مُطلقة، وهي تصنيف لنوع من الجرائم التي يجوز فيها للشرطة أو الشخص العادي أن يقبض فيها على الجاني بدون أمر قبض، ومع ذلك يستوجِب القانون حتى في هذه الحالة أن تقوم الجهة المنوط بها رفع الحصانة أن تفعل ذلك لاحقاً لاستِكمال إجراءت التحري والمحاكمة.
كما أن الحصانة لا تمنع من اتخاذ الإجراءات الأولية التي تلزم للتثبّت من كون الجريمة تقع في نطاق المصلحة التي شُرِعت من أجلها الحماية بالحصانة، ومتى تأكد خلاف ذلك، فإن رفع الحصانة يكون «وجوبياً» ولا يخضع ذلك لتقدير الجهة المختصة برفعها. فإذا تعدّى رئيس الدولة أو القاضي أو عضو البرلمان مثلاً على جاره بالضرب أو أصدر شيكاً بدون رصيد لسداد أجرة منزله، يكون من الواجب على الجهة المنوط بها رفع الحصانة أن تفعل ذلك على سبيل الإلزام لكون هذه الأفعال تقع خارج الغرض الذي شُرِّعت من أجله الحصانة، وهي تمكين عضو البرلمان من إبداء رأيه بحرية وشجاعة داخل البرلمان، وحماية القاضي أو المسؤول من كيد الخصوم. أما الحصانة الديبلوماسية فهي تبدو في ظاهرها أنها مُطلقة، وذلك بسبب أن الديبلوماسي لا يُحاسب في البلد المُضيف حتى لو ارتكب جريمة قتل في قارعة الطريق، ولكنها ليست كذلك، ذلك أن البلد المُضيف، بحسب تقديره لفداحة الجريمة، من حقه إبعاد وطرد الديبلوماسي من أراضيه، وبمجرد نزول الديبلوماسي من الطائرة في بلده، يتم القبض عليه والتحقيق معه بواسطة الشرطة والنيابة وتقديمه للمحاكمة عن الفعل متى كان يُشكّل جريمة في كلا البلدين، طبقاً لما يُعرف بإقليمية الجريمة. خلاصة القول، أنه ليس هناك في القانون (أي قانون) ما يُعرف بالحصانة المُطلقة، وما يُطالب به المجلس العسكري السوداني هو بِدعة لم يسبقه عليها نظام دولة حديثة أو قديمة، وهو زعم يسير في الاتجاه المُعاكِس لما يجري في نُظم الدولة الحديثة، التي تكاد تُساوي اليوم بين رئيس الدولة والمواطن العادي، كما نرى من تحقيقات ومقاضاة تجري للرؤساء في أميركا وأوروبا أثناء سريان فترة الرئاسة.
copy short url   نسخ
17/07/2019
629