+ A
A -
المهدي مبروك وزير الثقافة التونسي الأسبق=
لم يعد التونسيون يتذكّرون عدد المرات التي فشل فيها مجلس النواب في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية. وربما كان مرض الرئيس الباجي قائد السبسي أخيرا، تزامنا مع مرض رئيس مجلس النواب، قد أطلق صفارة إنذار حادّة لحالات الفراغ الممكنة في السلطة، والتي لم يتعرّض لها الدستور بدقة، الأمر الذي يحتاج موقف المحكمة الدستورية قبل تعديل الدستور نفسه.
وربما كانت التعديلات التي أدخلها البرلمان على القانون الانتخابي، وتم بموجبها «إقصاء» بعض ممن أعلنوا حرصهم على الترشح للانتخابات الرئاسية، واستغلوا جمعياتهم للعمل الخيري، وجيّروه لرصيدهم الانتخابي، كما دلت على ذلك استطلاعات للرأي أنجزت أخيرا. طعن نوابٌ في دستورية تلك التعديلات أمام الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين، في غياب المحكمة الدستورية، غير أنه تم إقرار سلامة هذه التعديلات، ما شكّل ضربة موجعة لهؤلاء المترشحين. وما أن تعافى الرئيس، مهر بتوقيعه القوانين المتعلقة بالانتخابات، ما أغلق الجدل بشأن إمكانية تأجيلها، بعد موعدها المقرر، السادس من أكتوبر المقبل.
على الرغم من إقرار الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين، التعديلات، فإن شكوكا ما زالت قائمة، خصوصا في ظل ملاحقة القضاء بعض رؤساء جمعيات خيرية بشبهة تبييض الأموال والتهرب الضريبي، بل هناك من بدأ يشكك في نزاهة القضاء ذاته، وكذا الأجهزة العدلية التي بدت كأنها مسخّرة من رئاسة الحكومة، لمعاقبة كل من يبدي شراسةً على منافسة رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، أو انحاز إلى خصومه في معركته مع حافظ السبسي، نجل الرئيس تحديدا.
ينتظر التونسيون توقيع الرئيس على التعديلات، حتى تصدر في الجريدة الرسمية، وتصبح قانونا نافذا تلتزم بتطبيقه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، على الرغم من ثقل المسؤولية وجسامتها، وهي التي قد تكون مضطرّة إلى تعزيز مواردها، حتى تلتزم بتطبيق تفاصيل تلك التعديلات. ولذلك يرى بعضهم تراخيا متعمدا في إنشاء المحكمة الدستورية، حتى يتسع هامش الفراغات الدستورية الذي تستغله السلطة التنفيذية، ومن ورائها الأحزاب، لتمرير أجندات خفية، للتخلص من منافسين محتملين. وربما تُفتقد الحجج التي تؤكد صدق هذه الشكوك، ولكن في مناخٍ من انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، خصوصا في سياق تنافسي شرس، فالأفضل حتى لا يتم الطعن في المسار الانتخابي، أن يوكل إلى المحكمة الدستورية الدائمة النظر في دستورية التعديلات حفظا للدستور، وترسيخاً للحقوق السياسية للمواطنين، بقطع النظر عن السياسات الحافّة بها. ومما يبرّر الشكوك في حرص مجلس النواب على انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية الحضور الضعيف للنواب في أثناء عملية انتخاب أعضاء هذه المحكمة، ما جعل المترشحين لا يحصلون على عدد الأصوات المطلوبة. علاوة على عدم الالتزام بالتوافقات بين رؤساء الكتل، ففي الخلوة يصوت نوابٌ عديدون وفق آرائهم الخاصة، وليس وفق ما يتم التوافق عليه بين رؤساء الكتل النيابية. وإذ يشهد مجلس النواب يوم الخميس المقبل عملية جديدة لإعادة انتخاب ثلاثة أعضاء في المحكمة الدستورية، فإن لا أحد يتوقع أن ترى هذه المحكمة النور خلال هذه العهدة النيابية.
وسيذهب التونسيون في الخريف المقبل إلى انتخابات مرشحيهم لمجلس النواب ورئيسهم، استنادا إلى مدوّنة تشريعية متينة، وهيئة مستقلة للانتخابات، فرضوها مباشرة بعد الثورة، حتى أخرجوا العملية الانتخابية نهائيا من وزارة الداخلية التي سيطرت عقودا عليها وتلاعبت بها. وعلى الرغم من أهمية هذا الإنجاز، باعتباره حجر الزاوية في سلامة أي مسار انتخابي، ليست هذه العناصر الوحيدة التي تحدّد جودة المناخ الانتخابي، خصوصا أن تعديلاتٍ وردت في الأمتار الأخيرة من هذا المسار. وقد منح خروج المسار الانتخابي من أروقة وزارة الداخلية الناخبين ضماناتٍ مؤكدة لسلامة العملية الانتخابية، غير أن الأمر يتجاوز الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والمحاذير تقع خارجها: المال الانتخابي والإعلام وعمليات سبر الآراء مدفوعة الأجر أحيانا، وكلها مسائل قد تلقي ظلالا على شفافية العملية الانتخابية ونزاهتها، وهو ما يجعل مهمة تنقيح بعض القوانين غير الانتخابية، وذات صلة بالانتخاب، أمرا حاسما (تمويل الأحزاب، الإعلام...). ربما لن يجد البرلمان وقتا لتدارك تلك الثغرات، نظرا إلى قرب انتهاء عهدته. وربما سيكون معيبا تغيير قواعد اللعبة في الشوط الأخير من المباراة. ولكن يبدو أن توطيد أركان الانتقال الديمقراطي يفترض تداركا لا يمكن نكرانه، حتى ولو أكّدت مئات الجمعيات والمنظمات المعنية بمراقبة العملية الانتخابية سلامة التصويت.
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
15/07/2019
775