+ A
A -
استمع ترامب لآراء الجنرالات والدبلوماسيين، وأدلى المشرِّعون بدلوهم، على غرار المستشارين. لكن صوت تاكر كارلسون، مقدم برامج قناة Fox News المُفضَّل لديه، كان بين الأصوات ذات الوقع الأقوى على مسامع الرئيس الأميركي، فمن هو الشخص الذي أقنع ترامب بعدم ضرب إيران.
وقال كارلسون للرئيس في الأيام الأخيرة إنَّ الردّ بالقوة على الاستفزاز الإيراني هو أمرٌ جنوني، وذلك إبان ضغط مستشاري الأمن القومي على ترامب لشنّ قصفٍ عسكري على إيران، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
وأضاف أنَّ دُعاة الحرب ليسوا حريصين على مصلحته، وأنَّ خوض ترامب حرباً مع إيران سيعني القضاء على أيّ أملٍ له في إعادة الترشُّح.
وعزَّزت وجهات النظر تلك الصادرة عن كارلسون بالتأكِّيد من الشكوك التي حملها ترامب نفسه تجاه فكرة الحرب، بغض النظر عن أهمية تلك النصيحة من عدمها، وذلك إبان مُحاولته تبيُّن الطريق لاتخاذ أحد أهم قرارات السياسة الخارجية في فترة رئاسته.
وألغى ترامب -على حد تعبيره- هجوماً «جاهزاً للانطلاق» ليلة الخميس 20 يونيو، قبل 10 دقائق فقط من لحظة الصفر ليتجنَّب وقوع خسائر في الأرواح كان المُحتمل أن تصل إلى 150 شخصاً.
رغم كل صخبه.. لماذا تراجع
ترامب عن المواجهة؟
عكست المخاوف التي سمعها ترامب من المقدِّم كارلسون جزءاً من هويته الرئاسية التي تتردَّد دائماً في لحظة المُواجهة.
إذ تراجع ترامب مراراً عن استخدام القوة، رغم العدائية والصدامية التي تُميِّز شخصيته العامة، بحجة أنَّ أميركا بدَّدت بالفعل أرواحاً وأموالاً أكثر من اللازم في حروبٍ بلا هدف بمنطقة الشرق الأوسط، وخوفاً من أن يُكرّر الأمور التي يرى فيها أخطاءً ارتكبها مَن سبقوه.
ومن السهل أن يتحوَّل قصفٌ جوي واحد ضدّ إيران إلى حربٍ كاملة الأركان دون أملٍ في نصرِ سهل، على حد تعبير كارلسون وغيره من المشكّكين في جدوى الردِّ العسكري.
وقيل لترامب إنَّ ذلك الردَّ يمثِّل كل الأمور التي بنى برنامجه الانتخابي على مُعارضتها. وبهذا كان الرئيس في صراعٍ حتى بداية المساء، ملتزماً باتخاذ رد فعلٍ يُبدي عزماً وتصميماً، حتى جاءت اللحظة التي قرَّر فيها التراجع وإلغاء انطلاق الطائرات الحربية وقاذفات الصواريخ.
وقال جيم ريش، السيناتور الجمهوري الذي يُمثِّل ولاية أيداهو ورئيس لجنة العلاقات الخارجية، وهو أحد المُشرِّعين الحاضرين داخل البيت الأبيض في ذلك اليوم: «أقول لمُنتقدي الرئيس إنَّ عليهم أن يكونوا شاكرين أنَّ اتخاذ ذلك القرار لم يقع على عاتقهم. إذ رأيته يتعذَّب حقاً أمام هذا الاختيار».
ولاتزال القصة الكاملة، حول موافقة ترامب على هجمةٍ ضدّ دولةٍ أخرى ثم إلغائها، محاطةً بالغموض إلى حدٍ كبير حتى بالنسبة لأطراف القصة، وذلك بحسب المقابلات التي أُجريت مع مسؤولين بالإدارة الأميركية وضبَّاط عسكريين ومشرّعين طلب العديد منهم عدم ذِكر اسمه. وظهرت رواياتٌ بدت متعارضة في اليوم التالي لإلغاء الهجوم، ولم يبذل البيت الأبيض مجهوداً لتوضيحها، مفضلاً الصمت عن وقائع المداولات. وكذلك رفضت المتحدثة باسم قناة Fox News التعليق على الخبر.
لديه بدائل غريبة للمستشارين
ومع ذلك، برهنت هذه الحادثة مرةً أخرى على مدى اختلاف عملية اتخاذ القرار لدى ترامب عمَّا كانت عليه لدى غيره من الرؤساء، حتى في مُواجهة أهم القضايا التي قد تُواجه قائداً أعلى للبلاد.
وبعيداً عن الاجتماعات والمُذكّرات، يثق ترامب في حدسه أكثر ممَّا يثق في المؤسسات، ويستعين بمصادر غير تقليدية لطلب النُصح، وهو مستعدٌ لتحدِّي غرفةٍ ملأى بالمستشارين.
ولم يحظ ترامب بوزير دفاعٍ وافق عليه مجلس الشيوخ طوال الأشهر الستة الماضية، إلى جانب استقالة القائم بأعمال وزير الدفاع هذا الأسبوع. في حين انشغل كافة المستشارين من حوله بمناورة بعضهم البعض سعياً للتفوُّق على أقرانهم.
وقاوم ترامب اقتراح الرد العسكري على الاستفزازات الإيرانية المتكرّرة طوال الأسابيع الماضية، ليستيقظ صباح يوم الخميس ويكتشف إسقاط طائرة تجسُّس أميركية. وحينها وجد الرئيس نفسه مضطراً لاتِّخاذ قرار بشأن كيفية الردّ على العدوان الإيراني تحت قيادة جون بولتون، مستشاره المُتشدِّد للأمن القومي.
وتناول بولتون وجبة الإفطار داخل البيت الأبيض مع باتريك شاناهان، القائم بأعمال وزير الدفاع الأميركي الذي أعلن استقالته قبل ثلاثة أيام من الحادث، في السابعة من صباح يوم الخميس، بعد ساعاتٍ معدودة من إسقاط الطائرة الأميركية بدون طيّار.
والتقى أيضاً مارك إسبر، وزير الجيش الأميركي المقرَّر أن يحل محل شاناهان، ومايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، والجنرال جوزيف دانفورد الابن، رئيس هيئة الأركان المشتركة.
أغلب المحيطين به تقريباً
أيدوا توجيه ضربة إلى إيران
وناقشت المجموعة واقعة الطائرة بدون طيار، واتَّفقت على ردٍ عسكري محتمل لتوصي به الرئيس بحسب مسؤولٍ في الإدارة. والتقت هذه المجموعة ذاتها، وبصحبتها جمعٌ آخر من مسؤولي الأمن القومي، بالرئيس ترامب في الحادية عشرة صباحاً لإطلاعه بشكلٍ موجز على خيارات شنّ القصف على إيران.
وجرت مناقشة تعداد الضحايا المُحتملين لمثل هذا الهجوم أثناء ذلك الاجتماع، وفقاً لأحد مسؤولي الإدارة الأميركية.
لكن كالعادة، لم يعتمد ترامب على فريقه من المسؤولين الرسميين فقط. إذ كان ليندسي غراهام، السيناتور الجمهوري من ولاية كارولاينا الجنوبية وحليف ترامب المُقرَّب، من بين الدُخلاء الذين تحدَّث إليهم الرئيس ذلك الصباح. وشجَّع غراهام الرئيس على دراسة احتمال الردّ العسكري على إسقاط الطائرة.
واستضاف ترامب قادة الكونغرس الأميركي داخل غرفة العمليات في الثالثة عصراً، ليُطلِعهم على موجز الواقعة ويستعرض أمامهم الردود البديلة المُحتملة. وغادر عددٌ من الحضور الغرفة بافتراضٍ يُرجِّح أنَّ ترامب سوف يأمر بشنّ قصفٍ على إيران.
وأصبح أمامه خياران للقصف
وحصل ترامب على قائمةٍ تحوي دزينةً من خيارات الهجوم على الأقل، ووُضِعَت تلك الخيارات خلال الشهر الجاري في أعقاب حوادث الهجوم على ناقلات النفط في المنطقة. لكن القائمة انحصرت في خيارين وحيدين على الأقل لاحقاً. وأُدرِجَت منشآتٌ مثل بطَّاريات الرادار والصواريخ بين الأهداف المُحتَملة.
وقال المسؤولون في الإدارة الأميركية يوم الجمعة، 21 يونيو، إنَّ قرار فريق الأمن القومي بالبيت الأبيض خرج بالإجماع بأن يكون هناك رد عسكري، وإنَّ جميعهم اتفقوا مع الخيار الأخير الذي أوصِيَ به ترامب.
لكنَّ العديد من المسؤولين العسكرين قالوا إنَّ الجنرال دانفورد لفت انتباههم إلى العواقب المُحتَملة للرد العسكري، مُحذِّراً إيَّاهم أنَّ ذلك قد يُهدِّد القوات الأميركية وحلفاءها في المنطقة. ووُصِف الجنرال دانفورد بأنَّه كان مُتوتراً بشكلٍ ملحوظ، وذلك إبان اجتماع السادسة مساءً الذي عُقِد داخل مكتب شاناهان في وزارة الدفاع الأميركية.
وجادل مايك بومبيو، وزير الخارجية، أثناء الاجتماعات المنعقدة بالبيت الأبيض قائلاً «إنَّ العقوبات الاقتصادية لها أثرٌ قوي في انهيار أرباح إيران من مبيعات النفط، وفقاً لمسؤولٍ أميركي بارز مُطلع على المُباحثات».
وفيما عبَّر بومبيو عن دعمه لشنّ ردٍ عسكري دقيق الهدف، إلَّا أنَّه أكَّد أنَّ العقوبات ستخرُج بالنتائج بعيدة الأمد التي ترجوها الإدارة الأميركية. وتساءل بعض مساعدي ترامب ما إن كان القصف العسكري سيُدمِّر الاستراتيجية الأميركية القائمة والفعَّالة.
لماذا ألغى العملية قبل ساعة واحدة من وقوعها؟
وأُخطِرَ المسؤولون البارزون بالإدارة، في السابعة مساءً، إنَّ القصف سينطلق على إيران بين التاسعة والعاشرة مساءً، أي قبل الفجر بتوقيت إيران مباشرةً. ولكن العملية أُلغيت في خلال ساعةٍ واحدة.
ونسب ترامب التراجع عن قرار الهجوم العسكري إلى رغبةٍ في تجنُّب وقوع خسائر بالأرواح، وذلك على موقع تويتر وفي مقابلةٍ مع شبكة NBC News الأميركية.
وقال ترامب إنَّه سأل جنرالاته: «أريد أن أعلم شيئاً قبل أن تذهبوا. كم شخصاً سيُقتَل من الإيرانيين في هذه الحالة؟». وأضاف ترامب أنَّ الجنرالات أجابوه بأنَّ 150 شخصاً سوف يموتون.
وقال ترامب في حديثه إلى تشاك تود، مُذيع NBC: «فكَّرت في الأمر للحظة، وقُلت لهم: لقد أسقطوا طائرةً بلا طيَّار، أو طائرةً آلية، أو أياً كان اسمها. وها نحن جالسون بحصيلة 150 شخصاً كانوا سيُقتَلون بعد نصف ساعةٍ من سماحي بالهجوم على الأغلب. ولم يعجبني هذا الأمر، ورأيتُ أنَّه ردٌ غير متناسب».
المفارقة أن التقديرات بسقوط 150 من الضحايا لم تأت من الجيش وقد تكون مبالغاً بها، لكنَّ واحداً من مسؤولي الإدارة الأميركية، المُطَّلعين على وقائع المُباحثات، شكَّك سراً في رواية الرئيس الأميركي. وذكر المسؤول إن التقديرات التي تُشير إلى وقوع 150 مدنياً ضحيةً لم تأت على لسان جنرال عسكري، بل أوردها أحد المُحامين.
وقال المسؤول إنَّ ذلك التقدير هو من صُنع محامي وزارة الدفاع الأميركية الذين توقَّعوا أسوأ السيناريوهات الممكنة. وأفاد المسؤول أنَّ المُحامين لم يأخذوا توقيت الهجوم بعين الاعتبار، سواءً كان سيحدث نهاراً حين يتواجد المزيد من الأشخاص في موقع الأهداف، أو في عتمة الليل قبل ساعاتٍ من شروق الشمس بحسب خُطط الجيش الأميركي.
ومُرِّرت تقديرات الخسائر تلك إلى بات كيبولون، مستشار البيت الأبيض، دون أن يصادق عليه شاناهان أو الجنرال دانفورد. وحينها نُقِل الرقم إلى الرئيس من قِبَل محاميي البيت الأبيض، وحينها غيَّر الرئيس رأيه وألغى القصف.
ويُشارك محامو البيت الأبيض عادةً في تقديرات خسائر الأرواح والأضرار الجانبية، مع تكليفٍ أن يضعوا في اعتبارهم أسوأ حصيلةٍ ممكنة. وتكون مثل هذه الأرقام فضفاضة عادةً، وتُمثِّل تخميناتٍ تقريبية دائماً، إذ يستحيل تقريباً معرفة مَن أو ما سيكون موجوداً في موقع الهجوم لحظة حدوثه.
لكنَّ بعض مساعدي ترامب رأوا تدخُّل المحامين بمثابة محاولةٍ للتحايل على بولتون، حتى يؤثّر على قرارات الرئيس. وفي واقع الأمر، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا، لعب تقدير الوفيَّات ذلك على نغمة المخاوف التي باح بها ترامب لكارلسون وغيره من المُشكّكين بشأن التدخُّل العسكري في الشرق الأوسط.
كما قيل له إن الإيرانيين لم يقصدوا إسقاط الطائرة
وقال الجنرال جاك كين، وهو نائب رئيس أركان الجيش المتقاعد والشخصية المقرَّبة من البيت الأبيض في عهد ترامب، إنَّ المداولات شهدت عاملاً آخر دخل في اتخاذ القرار.
إذ قيل للرئيس إنَّ الهجوم على الطائرة بلا طيار حدث عن طريق الخطأ في الحقيقة، وهو الأمر الذي ألمَح إليه ترامب علناً وهو يُحدّث المراسلين في وقتٍ مُبكِّر من اليوم.
وقال كين في مقابلةٍ صحفية: «تلقَّى الرئيس معلومات إضافية بأنَّ القادة القوميين الإيرانيين كانوا شديدي الإحباط أو السخط تجاه القائد التكتيكي الذي اتَّخذ قرار إسقاط الطائرة الأميركية». وأضاف أنَّ قاسم سليماني، قائد فيلق القدس واسع النفوذ في إيران، كان من بين القادة الذين أغضبتهم الحادثة.
وقال الجنرال كين إنَّه لم يتَّضح ما إن كان القائد الذي أمر بإسقاط الطائرة قد فعل ذلك داخل حدود سلطته أم أنَّه كان عُنصراً منشقاً.
وأضاف إنَّ تلك المعلومة تركت لدى ترامب انطباعاً أنَّ الردّ العسكري سينطوي على مخاطرةٍ بحدوث تصعيدٍ خطير، في جميع الأحوال، بناءً على حدثٍ لم يقصده قادة إيران.
وتابع الجنرال كين، قائلاً: «لا أعتقد أنَّ هذا الأمر مثَّل نقطة الحسم بالنسبة للرئيس»، لكنَّه ساهم في اتّخاذه قرار العدول عن الهجوم، والذي كان مدفوعاً في الأساس بالمخاوف حول عدد الضحايا. وأضاف: «أعتقد أنَّ الحدث الفاصل بالنسبة له كان المقارنة بين تدمير بطَّاريات الصواريخ وقتل الناس، وبين إسقاط طائرة بلا طيار».
وأوشك الوقت على الانتهاء بحلول تلك اللحظة. بينما كان السيناتور ليندسي غراهام، الذي ضغط من أجل تنفيذ اقتراح الهجوم العسكري، على متن طائرةٍ مُتجهة إلى الساحل الغربي الأميركي، وتعذّر الاتصال به. لذا ألغى ترامب المهمة.
الشخص الذي أقنع ترامب بعدم ضرب إيران يرى أن الحروب الأجنبية تنتهي بالفشل الذريع
اتخذ ترامب القرار، وأُمِرَ الجيش بأن ترجع السفن والطائرات العسكرية عن وضع الاستعداد. وفي البيت الأبيض، فتح ترامب التلفاز ليشاهد افتتاحية برنامج كارلسون في الثامنة مساءً، ويستمع إلى ما بدا له دفاعاً واضحاً عن موقفه آنذاك. وعلى الشاشة، أعلن كارلسون أنَّ «الحروب الأجنبية تنتهي دائماً بفشلٍ مرير للولايات المتحدة».
وامتدح كارلسون الرئيس لمقاومته التدخُّل العسكري في إيران، رغم عدم الإعلان عن أي قرارٍ حتى ذلك الحين. وقال: «نفس الأشخاص الذين ساقونا إلى ورطة العراق منذ 16 عاماً، يُطالبون الآن بحربٍ جديدة ضدَّ إيران هذه المرة. ويبدو الرئيس الأميركي، ويُحمَد على ذلك، مُتشككاً للغاية في الرضوخ لرغباتهم».
ومع ذلك، كان ترامب سيستمع إلى رسالةٍ مختلفة جذرياً عن رسالة كارلسون في حال أبقى التلفاز مفتوحاً بعد البرنامج. إذ أعلن شون هانيتي، صديقه الآخر بقناة Fox اليمينية، في التاسعة مساءً -قبل خروج قرار ترامب للعلن- أنَّه لا خيار أمام ترامب سوى أن «يَدُكَّهم دكاً».
لم يكن هذا صحيحاً في تلك الليلة على الأقل، لكنَّ المعركة من أجل التأثير على قرارات ترامب لم تنتهِ بعد.
copy short url   نسخ
25/06/2019
3011