+ A
A -
عبد النور بن عنتر كاتب وباحث جامعي جزائري في فرنسا
لا أحد كان يتوقع أن يعيش العالم العربي في عقد واحد حراكاً ضخماً يغير صورته محلياً وعالمياً، فهو لم يعد تلك الكتلة البشرية الساكنة الخنوعة المعتادة على الإذعان الاجتماعي المفروض قسرياً من أنظمة تسلطية جاثمة على صدور العرب منذ سنوات الاستقلال، تسلطية عوّضت الظلم الاستعماري بظلم محلي الصنع. وتعودت الأنظمة السياسية العربية، باختلاف طبيعتها وشرعيتها المزعومة (الدينية، الثورية..) على إذعان المجتمع متفنّنة في أساليب إعادة إنتاج نفسها عقودا. وبدا المشهد السياسي العربي على درجةٍ عاليةٍ من الجمود، وكأن واقع الأمة مسألة مكتوبة ومحسومة سلفاً لا مفرّ منها.
إلا أن الانتفاضات الديمقراطية العربية التي بدأت من تونس قبل أن تنتقل عدواها إلى دول عربية أخرى أحدثت قطيعة استراتيجية في المشهد السياسي العربي الراكد والخَنوع، وأدخلت العربي عصر المطالبة بالحرية والديمقراطية. إنها هبة جماهيرية، لا سابقة لها في تاريخ العرب، فهي بمثابة الموجة الديمقراطية الأولى، إلا أنها أُجهضت في مهدها، باستثناء الحالة التونسية؛ إذ سرعان ما استعادت الأنظمة التسلطية العربية عافيتها القمعية، فتلك التي كانت مهدّدة بالعدوى تمكّنت من تجاوز المحنة، أما التي ركبت الموجة، وتدخلت في شؤون أنظمة أخرى، فتعتبر نفسها في منأى عن هذا الحراك الشعبي، وبلغ بها الغرور السياسي درجة تحولها إلى قوى مناوئة للحراك العربي، حيث تستغل نفوذها ومالها وأجهزتها الإعلامية والدينية لإجهاض الحراك والحيلولة دون تحقيق مطالب المتظاهرين. ولكن سيأتي اليوم الذي ينقلب فيه السحر على الساحر.
وعلى الرغم من أن الانتفاضات الديمقراطية اندلعت في البيئة العربية الواحدة، إلا أن مساراتها تختلف باختلاف السياقات الوطنية، ما جعل المشهد الحراكي على درجة عالية من الثراء والتنوع، فالانتفاضة التونسية محلية المنشأ والأداء، وهي الوحيدة التي توّجت بتجربة انتقالية ناشئة في العالم العربي، ومن ثم فهي بمثابة خنجرٍ في خاصرة الأنظمة العربية القائمة. أما الانتفاضة المصرية فأُجهضت، وقادت إلى مشهدٍ مناقضٍ تماماً للمشهد التونسي؛ أي تدعيم التسلطية باستحواذ العسكر على السلطة، من خلال مرحلتين تخللتهما مرحلة الرئيس المنتخب الذي أطيح بانقلاب عسكري. وبين المشهدين، نجد الحالتين، الليبية والسورية، حيث قادت الانتفاضتان الديمقراطيتان إلى حربٍ أهليةٍ تتداخل فيها العوامل الإقليمية والدولية. لعبت أنظمة عربية دوراً بارزاً في المحنتين، الليبية والسورية، بدعوى دعم المطالب الشعبية في وقتٍ لا تحترم مطالب شعوبها! إيثار مخادع ينم عن حسابات سياسية مبتغاها إجهاض المطلب الديمقراطي عربياً. فليبيا التي بدأت انتفاضتها محليةً تحولت تدريجياً إلى دينامية هجينة محلية - خارجية بتنفيذ خارجي، انتهت بسقوط نظام القذافي فقتله، لكن النتيجة، في نهاية المطاف، الحرب الأهلية والدمار والخراب. هكذا سقط الليبيون في فخ «الدعم الخارجي»، لا سيما العربي: التخلص من النظام شيء وبناء الديمقراطية شيء آخر، كما أن أنظمة غير ديمقراطية يستحيل أن تدعم المطلب الديمقراطي، وإن فعلت، فإن المسألة لا تعدو أن تكون تكتيكية توظيفية. ألم تساند دول عربية سياسياً ومالياً، وحتى عسكرياً، التدخل في ليبيا لإنقاذ الشعب من النظام، وفي الوقت نفسه، تدخلت في البحرين لإنقاذ النظام من الشعب؟.
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
16/06/2019
218