+ A
A -
منذ اليوم الأول من أيام شهر رمضان المبارك وأنا أحلم بمنقوشة لبنانية من العيار الثقيل- كما نقول- مغمسة بزيت الزيتون الأصلي وممزوجة بالزعتر الجبلي الفائح برائحة بلدي لبنان، ولكنني وبعد كل صلاة تراويح، كان التعب يتسرب إلى جسدي، فأفضل النوم بدلاً من البحث عن ضالتي المنشودة- منقوشة الزعتر الشهية- وشاء القدر أمس أن يتحقق هذا الحلم، حيث اشتريت منقوشة فائحة
بكل ألوان الشوق لحضن أمي في مدينتي الصغيرة- طرابلس.
توجهت نحو الكورنيش فهو صلتي الوحيدة بالحياة، ووقفت هناك أمام ذلك السكون الهادئ محاولة العودة بالذاكرة إلى الأيام الأولى الرائعة التي قضيتها في الدوحة، فدمعت عيوني شوقًا إلى أصوات صديقات كن يرسمن صباحي فرحًا، وتسرب إلى قلبي شعور بألم لم أذقه حتى يومي هذا، حين نظرت إلى مرآة سيارتي، فوجدت وجهي خاليًا من كل المشاعر، فارغًا من السعادة، ولا يملك أية هوية، ولم أجد في يدي سوى تلك المنقوشة اليتيمة التي تفوح برائحة ذكريات تؤلمني، وبينما أنا في غمرة هذه المشاعر اللامبالية بدموعي المتساقطة، وجدت أمامي رجلاً في الثمانين من العمر، ينظر لي من بعيد.
التقطت أنفاسي الضعيفة، وقررت الخروج ومنحه جزءًا من منقوشتي اللذيذة، نزلت من سيارتي وتوجهت صوبه، ومددت له يدي بالجزء الذي اقتطعته من منقوشتي، فتفاجأت أنه يتقن اللغة العربية، فمد يده شاكراً قائلاً: «لا رغبة لي، شكرًا سيدتي»، وعندما أصررت على أن يأخذها، عاود الرفض قائلاً:«لا تتعبي نفسك، حياتي، أفقدتني شهيتي منذ أزمان»، ولأن الوحدة تضعف الحرص لدينا، وتقضي على حاسة الحذر، جلست أمامه، وسالته:«ما أصابك ؟»، فضحك قائلاً:«هي الحياة، أفقدتني شهيتي للبقاء، للطعام أو الشراب، لقد أدارت لي ظهرها وسرقت مني رغبتي بالبقاء، فأنا لست ابن أحد أو صديق أو حبيب أحد، وأشك في أنني ما زلت أبًا في ذاكرة أولادي هناك في تلك البلاد»، وعندما حاولت أن أهدئ من روعه، ابتسم قائلاً:«كلنا نأتي هذه الحياة، نحيا كل دقائقها، نواجه كل تحدياتها، نقاوم كل صعوباتها، وعندما يحين الوقت ويأتي دورنا لنعيش على أطراف الأيام، عندما نفقد جزءا من بصرنا، وجزءا من إحساسنا، ندرك حينها، أن حياتنا، أفقدتنا شهيتنا لكل شيء»، ثم تقدم إلى الأمام عدة خطوات، ونظر لي قائلاً:«تناوليها، قريبا ستفقدين شهيتك، تناوليها قبل أن تسرق سخونتها الحياة»، ومضى.
عدت الى سيارتي، نظرت الى مرآتي، واكتشفت أن - منقوشتي اللذيذة - قد باتت باردة كوجهي البارد لا تفوح منها رائحة الحياة، واكتشفت حقًا... أن حياتي... أفقدتني شهيتي في ذلك المساء
كاتبة لبنانية
[email protected]همسة
copy short url   نسخ
25/05/2019
1409