+ A
A -
يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(الإسراء:70).
يخبر سبحانه في هذه الآية أنه اختار الإنسان على سائر المخلوقات، وكرمه عليها، وفضله تفضيلاً.
وقد ذكر سبحانه مظاهر هذا التكريم في كتابه.. فكان مما كرمه به: ـ أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، في احتفال تعظيم، وموكب تكريم.. ليس عبادة له، ولكنه تكريم وتبجيل وبيان لميزة هذا المخلوق الكريم.
ـ أكرمه بالعلم، وزينه بالفهم والحلم، وخصه بالإرادة والعلم والنطق والبيان. ووهبه أعظم ميزة ميزه بها على سائر من دونه، وهي العقل: أساس التكليف، ومحور التشريف، يكتسب به المعارف والعلوم، وبه يكون الاختراع والإبداع، يستكشف به الكون ويحل أسراره ويستخرج كنوزه.
ـ وأسكنه فسيح جناته، قبل أن يخرق هذا التكريم بالأكل من الشجرة، فكانت أول عقوبة بالنزول إلى الأرض.
ـ فلما أنزله إلى الأرض جعله خليفة فيهاـ والخليفة يستمد شرفه وقدره من منزلة مستخلفه- وحمله الأمانة، أمانة التكليف وهو من أعظم مظاهر التكريم والرفعة و التشريف، بعد أن أبت السموات والأرض والجبال واشفقن منهاـ سخر له الكون وما فيه لخدمته، فالأفلاك دائرة بما فيه مصالحه.
والشمس القمر الكواكب مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته، وإصلاح مراتب أقواته. والعالم الجوي و العالم الأرضي، البر والبحر والجو كلها مسخرات لخدمته {وَهُوَ ?لَّذِى سَخَّرَ ?لْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ?لْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ? وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وحتى الملائكة حملة العرش ومن حوله يستغفرون له، والموكلون به يحفظونه، والموكلون بالقطر يسعون في رزقه.
ومنهم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه بأمر الله.
وبالجملة فإن الله كرم بني آدم، وجعل كرامة الإنسان جوهر إنسانيته، ولب بشريته، وأساس حياته وسر رفعته. خلقه واصطفاه، وفضله واجتباه، وأعده أكمل إعداد وأوفاه، وهيأ له كل ما يحتاجه مما تقوم به حياته ويصلح به أمر دينه ودنياه.. وأكرمه بالفطرة السوية، والعقيدة النقية، وحمله الأمانة الغالية، وكلفه بحمل الرسالة السامية، أنشأه من الأرض ليعمرها، واستخلفه فيها ليصلحها، فينفذ رسالته ويطبق شريعته.
وهذا التكريم تكريم عام شمل كل بني آدم، ودخل تحته جنس البشر، فدخل فيه الكافرون كما دخل فيه المؤمنون، والعاصون كما الطائعون، والصالحون والطالحون.. فكلهم شملهم تكريم الرب لهم. فهو تكريم عام حصله كل إنسان من جهة ذاته، وروحه، وعقله.
فمن جهة ذاته: حسن صورته، عدل قامته، وقوم هيئته {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}
ومن جهة روحه: جعلها قابلة للتحلي بأكمل الصفات، وأطهر الأخلاق، وأزكى السمات.
ومن جهة عقله: هيئه لإدراك الحقائق، وحصول المعارف، وفهم الدقائق، وربط الأسباب بمسبباتها ووجوه ارتباطها وانفصالها.
إكرام الإنسان لنفسه:
فإذا كان الله قد رضي لنا الإكرام ولم يرض لنا المهانة فعلينا أن نعيش كراماً.. وإنما يكون ذلك بأمرين:
أولاً: أن نحفظ كرامة أنفسنا:
فنكرم عقولنا: بالعلم والمعرفة والتفكر والتدبر والتأمل، وتنزيهها عن الأوهام والضلالات.
ونكرم قلوبنا بالإيمان وحب الله والتوكل عليه وتنظيفها من أوضارها، وتنقيتها من أمراضها، كالحقد والكراهية والحسد والغل، والمكر والخديعة.
ونكرم أرواحنا: بذكر الله، ومكارم الأخلاق، والسمو بذواتنا وتنزيهها عن الغفلة والدناءة وخوارم المروءة.
ونكرم جوارحنا بالطاعة، وبتحري أكرم الأقوال والأفعال والأحوال، وتجنب المعاصي والترفع عن الدنايا والمهانة.
فكن كريم النفس عزيزها، لا تتذلل لبشر فقد جعلك الله كريماً... إن من يرزق الطير في السماء، والسمك في الماء، والنمل في الجحور، لن ينساك.
ثانياً: إن نحفظ كرامة الآخرين
فقد حفظ الله للناس جميعا كرامتهم، وصان أموالهم ودماءهم وأعراضهم، ووضعت الشريعة الإنسان في أعلى مكانة، وأسمى منزلة، ودعت إلى احترام الجنس البشري عموما وتكريم ذاته، حتى اعتبرت الاعتداء عليه ظلما اعتداء على الإنسانية كلها.
{مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة:32).
وصانت الشريعة الأعراض وصانت الكرامة فلا يجوز أن يؤذى إنسان في حضرته، ولا أن يهان في غيبته، فلا تجرح إنسانا، ولا تهن كرامة أحد كرمه الله مهما كان شأنه. وإياك والهمز واللمز والسخرية والاستهزاء، فرب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره. وأكرم اليتيم والمسكين وابن السبيل، والمحتاج والأرملة. واحفظ كرامة المرأة زوجة أو بنتاً أو أماً. وأعطها حقوقها لا تستغل ضعفها واصبر عليها واحتسب في إكرامها.
كرامة أعلى وأجل:
كان ما سبق نوعاً من إكرام الله للإنسان، غير أن هناك نوعاً آخر من التكريم أعلى من الأول وأعظم وأجل.
فمن أراد كرامة الدارين، وسعادة الحياتين، ورفعة الدنيا والآخرة فليكرم نفسه بطاعة ربه، وعبادة مولاه، ولا يهن نفسه ولا يشنها بالشرك والكفر والإعراض، والبعد عن طاعة من أكرمه بالإيجاد وأحسن إليه بكل أنواع الإحسان.
فمن أقبل على الله طائعاً راضياً فهو المكرم المقرب، ومن أعرض عن الله فهو المبعد المهان {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
copy short url   نسخ
24/05/2019
4611