+ A
A -
بقلم: د.سعاد درير كاتبة مغربية
للشوق لسان يَحكي حكاية العارفين تِلْكَ التي يَكتبها الزمن على جدار حزين، جدار يُسمى الجسد، إنه الجسد الذي تَزهد فيه الروح، وترتمي في أحضان الهوى ذاك الذي يُؤَهِّلُها لِتَبوح..
وأيّ هوى؟!
إنه ذاك الذي تَصْبُو فيه النفس إلى عِنَب المحبة الإلهية الخالدة تِلك التي لا تَقدم ولا تَبلى ولا تَموت، ومِن ثمة تَكون للسالك الزَّادَ والقوت:
«أُحِبُّكَ حُبَّينِ حُبَّ الهوى
وحُبّاً لأنكَ أَهْلٌ لِذاكَ،
فأمّا الذي هو حُبّ الهوى
فشغلي بِذكركَ عَمَّنْ سِواكَ،
وأمّا الذي أنتَ أَهْلٌ له
فكشفكَ لي الحجبَ حتى أراكَ،
فلا الحمد في ذا ولا ذاكَ لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكَ» [كتاب «رابعة العدوية إمامة المعشوقين والمحزونين» لعبد المنعم الحفني].
لِنَقُلْ إنه موعد مع مَن لا يَطيب لها المقام ولا تَهنأ لها الراحة إلا بين يديه وفي جِواره.. هو مَن تَتَفَرَّغُ له النهارَ كُلَّه والليلَ جُلَّه، وهو نفسُه مَن لا شاغل يَشغلها عنه..
حُبّ لا كأيّ حُبّ كان حُبّ العابدة الزاهدة رابعة العدوية، وشوق لا ككل شوق كان شوقها هِيَ:
وأشتاق شَوقين: شوقَ النوى
وشوقا لقرب الخطى من حماكَ،
فأما الذي هو شوق النوى
فمسرى الدموع لِطول نواكَ،
وأما اشتياقي لقرب الحمى
«فنار حياة خَبَتْ في ضياكَ» [رابعة العدوية].
إنها الواقفة عند باب الله الراغبة في ملتقاه رابعة العدوية، واسمها أمّ الخير بنت إسماعيل العدوي نسبةً إلى بَنِي عدوة..
وعلى ذكر اسمها، تَجدر الإشارة هنا إلى أن الحديث عن تسمية رابعة فيه اختلاف النظر. هناك مَن يَذكر أن اسم رابعة يَعود إلى ترتيبها بين شقيقاتها مِن إناث البيت، فجاءَتْ رُتبتُها الرابعة، غير أن شِعرا لرابعة العدوية يُرَجِّحُ تفسيرا آخَر:
«كأسي وخمري والنديم ثلاثة
وأنا المشوقة في المحبة رابعة،
كأس المسرة والنعيم يديرها
ساقي المدام على المدى متتابعة» [رابعة العدوية].
ولا غرابة أن يَفهم الناظر بِعَيْن التأمُّل إلى المقطع الشعري السابق أن الكلام يَرِدُ على لسان رابعة العدوية، وأنها ما سُمِّيَتْ برابعة سِوى لأنها تَلحق الكأس (الأولى) والخمر (الثانية) والنديم (الثالث)..
غير أن السؤال الذي يَرسم أكثر مِن علامة تعجب واستفهام هو: كيف يعقل أن تَكون رابعة العدوية ملازمة لكأس الرَّاح هي الهائمة في العشق الصوفي الخالص؟!
أنْ تَبلغَ مقاماتِ الحُبّ الإلهي الخالص معناه أنَّ ما مِن مَجال لِتُعَاقِرَ الكأسَ بحال.. ولهذا تَجد أصابع الاتهام تُشير إلى السينما التي شَوَّهَتْ في العيون صورةَ العابدة رابعة تلك التي باتَتْ قابعة في مَعْبَد الحُبّ الإلهي ومرابطة في مِحْراب الزُّهد..
«راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائما في حضرتي
لم أَجِدْ لي عن هواه عوَضا
وهواه في البرايا محنتي
إن أَمُتْ وجدا وما ثَمَّ رضا
وا عنائي في الورى وا شقوتي
قد هجرتُ الخلقَ جمعا أرتجي
منكَ وَصْلا فهو أقصى منيتي» [رابعة العدوية].
إنه أدنى ما تَتُوق إليه أَمَةُ الله الزاهدة في سِواه، تِلك هي رابعة التي رَأَتْ أن تَكون مُنْصِفَة لحُبّ مَنْ تَعبد، فلا مخلوق مِن ثمة يستطيع أن يُنافِس الخالق على مكان في قلبها..
لهذا كان جواب رابعة حكيما حينَ سُئِلَتْ عن سِرّ غياب رغبتها في الزواج، فقد ذَكَرَ صاحب كتاب «رابعة العدوية إمامة المعشوقين والمحزونين» أنها قالت إنها لا تَقْوَى على أنْ تَتَفَرَّغَ للزوج وهُناك هموم تَشغلها:
- الهمّ الأول: هل ستُعطى كتابَها بيمينها؟!
- الهمّ الثاني: هل ستَكون مِن أصحاب الميمنة أم مِن أصحاب المشأمة؟!
- الهمّ الثالث: هل تستطيع أن تتقدم بإيمانها طاهرا إذا ماتت؟!
تِلك الهموم أَخَذَتْ مِن رابعة وقتَها كُلَّه، لذلك كانت تَردّ وترفض مَن يَطلبها زوجةً له ما لم يَقْوَ على أن يُريحها بإجابة تشفي الغليل.. إنه الهروب بحكمة مِن سؤال الواقف عِند عتبة الزواج..
رابعة العدوية تَسْتَحِقّ بسيرتها الأرِجَة أن تُجَدِّدَ عدسةُ الكاميرا التقاطَها لِتُبرزها بالمفهوم الحقيقي للزُّهد تحت قُبَّة التصوف بعد أن قَزَّمَتْها السينما العربية وصَوَّرَتْها عابثة لاهية..
الزُّهْد يَقودك إلى مشارف التحرر، فلا أسوار تَقِف بين الممكن والمستحيل.. إنها الكلمة الأخيرة تُقال بلسان الزاهد ذاك الذي يَنام حَقُّه في الدنيا على وسادة الرِّضى..
لهذا تسدل الحامدة الراضية رابعة العدوية ستائرَ الرضى لتَقول في بابه إن العبدَ يبلغ مقام أن يَكون راضيا عندما تسرّه المصيبة كما تسرّه النعمة [عبد المنعم حفني]..
لقد كانت رابعة عفيفة شريفة في بيت أبويها حافظة للقرآن، غير أن موتَ أبويها وظروف القِحط والمجاعة آلَتْ بها إلى الضياع بعد تَفَرُّق الأخوات، وتَسَبَّبَ الأمر في وقوعها في يَدِ مَنْ باعَها لواحد مِن الأسياد ذاكَ الذي عاملها معاملة العبيد لا كَما ينبغي أن يُعامَل كريم العباد..
رابعة المحِبَّة لله تَرى مِن الحكمة أن تَزهدَ في سواه، لا بل إنها تَرى أنكَ إن أَحْبَبْتَ الله تركْتَ سِواه وما عاد في قلبك مكان لتُحِبَّ سِواه..
«يا حبيب القلب ما لي سِواكَ
فارْحَم اليوم مذنبا قد أتاكَ
يا رجائي وراحتي وسروري
قد أبى القلبُ أن يُجيبَ سِواكَ» [رابعة العدوية].
وهنا يَضرب لنا صاحبُ كتاب «رابعة العدوية» عبد المنعم الحفني موعدا مع رياح القيسي الزاهد الذي رَنَتْ إليه رابعة يوما وهو يضمّ إلى صدره صَبِيا ويُقَبِّلُه: «ما كنتُ أحسب أن في قلبكَ موضعا لمحبة غيره»، فما كان مِن رياح إلا أن تَصَبَّبَ عَرقا..
هل هو الخوف مِن أن يَكون حُبّ رياح القيسي أقل مما يَستحقه مولاه؟!
أم هو الخوف مِن أن تتفوق رابعة على رياح؟!
إنه الخوف، الخوف بَطَلُ الانفعالات وسَيِّدُها.. ولهذا تَقول رابعة في مقام الخوف:
«وزادي قليل لا أراه مُبلِّغي
أللزاد أبكي أم لطول مسافتي!
أتحرقني بالنار يا غاية المنى
فأين رجائي فيكَ أين مخافتي!» [رابعة العدوية].
الرجاء عَتَبة يَقِفُ عندها قلبُكَ الهارب مِن دنيا تُعادِل فَلاة، والخوف يَتَمَوْضَع في سُلَّم قلبِكَ على رأس قائمة الْمُقَوِّيات..
إنه الخوف الذي يَرفعك في مقام العبادة.. فهل هذا ما تراه رابعة؟!
إنها رؤية العارفين بأسرار العشق الصوفي ما تَراه رابعة هي القائلة بلسان اليقين: «ما عبدتُه خوفا مِن ناره، ولا حُبّاً لجنته.. إنما عبدتُه حُبّا وشوقا إليه» [رابعة العدوية إمامة المعشوقين والمحزونين]..
قلب رابعة كان عامرا بحُبّ مَن يَسقط كُلُّ حُبٍّ عَداه. ولهذا فإن في حُبّ ذاته الإلهية كان يَتَقَلَّب قلبُ رابعة العدوية، ومِن ثمة يَتَبَدَّل مِن حال إلى الحال..
إنها أحوال القلب التي لا يَدري بها سِوى طالب الحُبّ:
«حبيب ليس يعدله حبيب
ولا لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن بصري وشخصي
ولكن في فؤادي ما يَغيب» [رابعة العدوية].
سيدةُ طُلاَّب اللهو والهوى، كما وصفها مَن لم يُنصفوها، تَركض صعودا إلى مدارج الانعتاق على ظهر سارية تَجري جريان العين بين ضِفَّتَيْ التوبة والهِداية..
الرُّوح إلى جَلال المحبوب تَهفو، والقلب إلى ظِلّ المعبود يَسكن، والحروف لِصَانِع لَذَّات العشق في سماوات الذَّات تَحْلُو..
تَنكشف أضواء الروحانيات، يَتدفق الحُبّ الإلهي، يَتَصَبَّبُ العشق الصوفي، تَقِف على أُهْبَةٍ واستعداد عند رصيف الإشارة ستائر الشوق، ومِن قاع محيطات الذات تَبدأ رحلة المناجاة..
الحُبّ إيمان، والإيمان حُبّ، وبينهما يَسترسل انقيادُ القلب لِوَثْبَة النجاة..
بقلم: سعاد درير
copy short url   نسخ
12/01/2019
14713