+ A
A -
داليا الحديدي
حدثني أحدهم يوم ميلادي الخامس والعشرين : لاحظت أنك ما أُصبت مذ طراوة عمرك ولا بنزلة برد.
فتوالت العمليات الجراحية تباعًا مذ لامست السادسة والعشرين ربيعًا وحتى قريب عهد.
المفارقة، أن لحظات طيب رقادي على سرج المرضى «الترولي»، مرورًا بالانتقال عبر ممرات العيادات الخارجية وحتى النزول بالمصعد لقسم الجراحة ودخولي لمسرح العمليات، تعد من أكثر أوقات حياتي استجمامًا، ففيها تركيز لعبارات المؤازرة والنظرات الودودة واللفتات المحتضنة وكم من ربتات كتف صدوقة بمذاق راحة الحلقوم، مهداة من غُرباء، حتى أني أعمد خلالها لأن يلامس صفحة وجهي كل يٍد تربت عليّ عاتقي لأستبقي على خدي وأذني سحائب من عطر لطٍف دافٍئ نثروه بين أضلعي، ينتفض له لحم روحي.
تلكم البسمات منثورة كألحان شرقية دونما قيثارة، حتى أخال وجهي قد استنار ثم استدار وقد استحال لجامع نقوط حريص على التقاط كل ابتسامة ليصونها بقلبه كترياق مضاد لأكسدة القساة من البشر.
هذا عدا الحوارات الخفيفة المتبادلة مع أطباء التخدير حيث أشعر أنهم كلاعبي المنتخب حيث يقومون بالتحمية قبيل المباراة.
أسلم نفسي مطمئنة لفريق العمل الطبي، فهذا يقيس ضغطًا وذاك يثبت «محلولا»وهذا يرفعني وذاك يقلبني كشطيرة بين يدي خباز يقذفها ثم يلفها في الهواء كراقص التنورة، وكم من ضحكات متبادلة داخل «العمليات» وأيادٍ بيضاء أزاحت بريّاها من على صدري غبار وجع السنين.
ثم أسئلة طبيب التخدير المعتادة
ومشاعر تحاكي الثمالة قبيل الغيبوبة المقتطعة من العمر بالتراضي
ما أحلاها هدنة من الاشتباك مع تذكارات طراوة الصبا أوترهلات الكهولة.
فاصلة تحاكي الاستراحة بين الشوطين.
أو كمذنب يقف على الأعراف يتمنى لو أنه عدم، فهو ينتظر مصيره في وجل وجسده مسجى في تابوت الضجر.
سويعات من قيلولة طبية تحمل مسمى «بين بين»
بين الحنين للنشور ترقبًا لميقات رب السماء، وبين الشغف للعود لأهل الأرض.
ويلاه لعود دون شغف لرفيق تحسبه صفيّ، ويلاه للشغف في لزاهدين فيك!
إنها إجازة من الحياة مدفوعة العُمر، مرهون فيها الروح والبدن حتى إشعار آخر.
فالغيبوبة هي فرصة مقننة ومؤقتة بميقات لنعود في الشوط الثاني من الحياة بعد نجاح العملية لنجني سنبلات الحياة، أو لو فشلت العملية، نهوى ككسر نيزك يوشك أن يقع.
لكم ينتابني ساعتها شعور باستحقاق نسيان مسؤولياتي وصف واجباتي على يمين قارعة القدر إلى حين، وما أجمله من شعور، كمن رفع عنه القلم.
ولن بفوتني ذكر نشوى المجازفة، لأن بإزاء كل عملية جراحية، فأنت تُجدل خصلة مستقبلك بحبل أجلك.
وما أجمل سماع الممرضات،
وإحداهن تمر على الغرف مرور النسيم، تدلف لغرفتي، تتفقدني، تجلس بطرف فراشي، تحادثني هنيهة ثم تمضي، لكن سحائب عنايتها تبقى هائمة كهلام الدخان المتصاعد أو كصدى الصوت المرتد.
تعاود الزيارة، تكاد ملامح وجهها تتمزق ساعة إزالة الدرنقة من أسفل خاصرتي، يتنهد صدرها صعودًا وهبوطًا مع مُنحَنى ألمي، تزفر زفرة تتنفس خلالها الصعداء حين تُحَدِق بابتسامتي، فتطمئن أني وقعّت خاتمة العناء.
قالت: سأصلي من أجلك، اطمئني
قلت:أما أنا، سأصلي لتبقى إلى جانبي، لأطمئن.
كاتبة مصرية
بقلم: داليا الحديدي
copy short url   نسخ
12/01/2019
2906