+ A
A -
سليمان قبيلات كاتب أردني
من أسس البحث العلمي في التاريخ، استقرت قاعدة لا محيد عنها تقول: المعطى التاريخي يحاكم بموضوعية وفق مفاهيم عصره، ولا مجال لإدانة الفعل التاريخي، أيا كانت نتائجه، فالأهم، تبعا لهذه القعدة، هو استخلاص أسس تجنيب التاريخ اعادة ذاته مأساة أو ملهاة. ثنائية الشخصيات المتنافرة في مسرح التاريخ تعرفها كل الأمم والشعوب، ولا يسعنا إدانة هذه الشخصية أو تلك تبعا لفعلها السياسي في اللحظة الزمنية التي وقعها فيها الفعل. ترى ايهما اكثر قربا والتصاقا بذاكرة أمتنا على سبيل المثال، يوسف بن تاشفين ام المعتمد بن عباد ؟! هواري بو مدين ام احمد بن بيله؟! صدام حسين وحروبه وسياساته التي أفضت إلى ما أفضت، ام عهد الحكم الطائفي، وإخراح العراق من معادلة صراع الامة مع عدوها الصهيوني وحلفائه؟! الامم والشعوب التي قطعت اشواطا في بناء الدولة الامة، لا تغرق انسانها في التاريخ والماضي، ليظل اسيرا له، بل يفكر في يومه ومهمات. طبعا يقصد بالانسان، صاحب الوعي الذي صاغته النخب التي انتجتها دولة الامم في صعودها وتراجعها وتذبذبها، وهفواتها. في عالمنا العربي تسود الماضوية في متداول الناس وحتى احلامهم، التي حرص الاستبداد العربي على جعلها كونا وهميا يعيشه الفرد منذ صغره، فيكبر على ماضوية تتوهم الاعتداد بالذات التي لا تعي ذاتها. وكلما اشتدت ضائقة بالناس ينخرطون في حملة بكائيات على الماضي، تصل حد شتيمة هذه الشخصية أو تلك، بدعاوى لا علاقة لها بتاريخية وقوع الحدث الذي يسوقه الضخ التربوي المريض، سببا للشتم والزجر المطلق من التاريخ. ومن صيغ الماضوية والاستغراق فيها، ما تعبر عنه سجالات على مواقع التواصل الاجتماعي: هذا يشتم باقذع الاوصاف شخصية من وزن المعتمد بن عباد بصفته«خائنا» يجزم الشخص المدعي، انه تحالف مع ملوك الاسبان في هجومهم على امارات الطوائف ضد جيش يوسف بن تاشفين والموحدين في قدومهم من المغرب لمنع تداعي الاندلس ووقوعها في قبضة الانتقام القشتالي. ينبري احد قارئي التاريخ فيرد ردا موضوعيا منصفا للسجال لئلا ينزلق إلى متاهة الردح والشتم وتخوين شخصيات تاريخية. ولان الشتّام لا يعرف الا الرد النزق، يبدأ بكيل الاتهامات لكل من يدافع عن «الخونة والعملاء». لا يستفز صاحبنا الموضوعي، فيسجل رده درسا في تحليل التاريخ، يبسط من خلاله، حقائق لا تقبل التأويل أو الشك. على الرغم من هذه المحاولة اليائسة لانقاذ «الحوار» من الانزلاق إلى المتاهة، يواصل الشاتم سبابه الذي يجد له انصارا ومؤيدين في اوساط المعلقين. ينتاب المتابع للشأن الاجتماعي في العالمين الافتراضي والعياني، ان السطحية سمة تتعمق في حديث الناس على وجه العموم، فضلا عن التسرع في اطلاق الاحكام وصولا إلى الشتم، وحتى التكفير والاخراج من الملة، فقط لان صاحب راي ابداه بما يخالف المستقر الوهمي في الوعي الجمعي. تلك كارثة حقيقية، تغرق المجتمع في متاهة لا يبدو ان لها نهاية في الامد المتوسط. حالة يؤكد البحث انها قادمة من زمن سحيق، فصاغت وعي الناس وكبلتهم بقيود صارت مع الزمن هي الحياة القويمة، فيما يغادر العالم بعيدا عنا بعشرات السنوات الضوئية ويتركنا على هامش الحدث، كما كــــــان قبل قرون حين لفظتنا أوروبا طردا وتنكيلا من جنوبها إلى ما وراء مياه المتوسط، وكأنما أصدرت حكما علينا ان نعود إلى حيث كنـــــــــا قبائل ومللا لا تعرف معنى للحيـــــاة في ظل دولة تصيغ وعيا شعبيا يحميها من تجدد مأساة النفي من التاريخ!
copy short url   نسخ
30/11/2018
1011