+ A
A -
المركز العربي للأبحاث
بعد أسابيع من النقاشات الداخلية، حسمت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، موقفها وقررت في 31 أغسطس 2018، وقف التمويل كليًا عن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى «الأونروا». قدمت هذه الوكالة خدمات مهمة للاجئين الفلسطينيين في مجالات حياتية مهمة كان أبرزها مجال التعليم، ولكنها مثّلت أيضًا اعترافًا من المجتمع الدولي الذي أقرّ قيام إسرائيل على أرض فلسطين بمسؤولية ما عن قضية اللاجئين، وهو الذي أقرّ لهم حق العودة ولم يتمكّن من فرضه على إسرائيل.
وكانت إدارة ترامب قررت مطلع 2018 تخفيض الدعم السنوي الذي تقدمه الولايات المتحدة الأميركية للوكالة، من 365 مليون دولار، إلى 125 مليون دولار سنويًا، لم تقدم منها لعام 2018 إلا 60 مليون دولار. وكان التمويل الأميركي للوكالة يمثّل سابقًا ثلث ميزانيتها السنوية والبالغة 1.24 مليار دولار؛ وهو ما يؤثّر جذريًّا في حياة ملايين اللاجئين الفلسطينيين المعتمدين على خدمات الوكالة في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان.
ولكن الهدف الرئيس من الخطوة يبقى سياسيًّا، ويتمثّل بتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، بدءًا بعدم الاعتراف بوجود قضية كهذه. يأتي هذا الأمر في سياق تفاهم أميركي – إسرائيلي، يهدف إلى حسم قضايا الحل النهائي من جانب واحد وتصفية القضية الفلسطينية كليًا. ففي ديسمبر 2017، اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأتبعها بنقل السفارة الأميركية إليها في مايو 2018. وفي يوليو 2018، تبنى الكنيست الإسرائيلي قانون «الدولة القومية»، وهو القانون الذي منح اليهود دون غيرهم من مواطني إسرائيل حق تقرير المصير.
وقد ترافق قرار وقف تمويل الأونروا مع قرار آخر اتخذته إدارة ترامب، يتمثّل بحجب مساعدات إغاثية وطبية وتنموية بقيمة 200 مليون دولار، كان من المفترض صرفها هذا العام في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتذرعت الإدارة الأميركية في قرارها الأخير بأنه لا توجد مصلحة قومية أميركية في صرف ذلك المبلغ في الضفة والقطاع، خصوصًا في ضوء ما تزعمه من حالة «عداء» فلسطيني نحو الولايات المتحدة. لكن استراتيجية الإدارة الأميركية أصبحـت علنية في هذا السياق، وهي تقوم على الضغط الاقتصادي على الفلسطينيين؛ للقبول بأفكار مستشار الرئيس والمكلف بملف الشرق الأوسط جاريد كوشنر ومعاونيه المتوافقة مع اليمين الإسرائيلي المتطرف.
مقدمات القرار
لم يكن قرار قطع التمويل أميركيًا عن الأونروا مفاجأة؛ إذ كانت إدارة ترامب أعلنت مطلع 2018 تخفيض حجم الدعم السنوي الأميركي بنحو الثلثين، ولم تقدم منه فعليًّا إلا السدس تقريبًا. وفي أغسطس 2018، كشفت مجلة فورن بوليسي عن رسائل بريد إلكتروني مسربة، توضح كيف ضغط كوشنر على مسؤولين آخرين في الإدارة للانخراط في «جهد جدي للتضييق على الأونروا». وبحسب تقارير إعلامية أميركية، فإن قرار وقف التمويل عن الأونروا اتخذ خلال اجتماع بين كوشنر ووزير الخارجية، مايك بومبيو، في حين أدّت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، دورًا مهمًّا في تبنّي القرار. ويُعتبر كوشنر وهيلي أكبر داعمين للقرار، وقد ضغطا من أجل تمريره، وذلك على الرغم من معارضة وزارة الدفاع والمؤسسات الاستخباراتية الأميركية التي حذّرت من انزلاق المنطقة نحو العنف نتيجة انقطاع المساعدات عن الفلسطينيين. وقد جادل كل من كوشنر وهيلي بأن الأونروا أحدثت حالة من «الاتكالية» بين الفلسطينيين، وبأن إصرارهم على حق العودة يناقض كون دولة إسرائيل «دولة الشعب اليهودي»، ويديم الصراع، ومن ثمّ يعطّل إمكانية تحقيق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد أبلغت إدارة ترامب دولًا إقليمية بقرارها وقف التمويل عن الأونروا قبل أسابيع من إعلانه، وضغطت على دول مضيفة للاجئين، مثل الأردن، لتوطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها، مقابل توجيه المساعدات المالية الأميركية إليها مباشرة، وهو الأمر الذي رفضه الأردن.
الأسباب المعلنة للقرار
قدمت إدارة ترامب ثلاثة أسباب لتبرير قرار وقف التمويل عن الأونروا، هي التالية:
تزعم إدارة ترامب أن استمرار الأونروا يسهم في استدامة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؛ ذلك أن إصرار الفلسطينيين على حق العودة إلى الأراضي والبيوت التي هُجّروا منها منذ عام 1948 بحسب نصّ قرارات الشرعية الدولية، وتحديدًا قرار مجلس الأمن رقم 194، يتناقض كليًّا مع «يهودية» إسرائيل، ومن ثمّ يعطّل أي إمكانية لتحقق «السلام» بين الطرفين. وترى إدارة ترامب أن بقاء الأونروا يذكي باستمرار جذوة حق العودة للفلسطينيين.
تتهم إدارة ترامب الأونروا بـ «المبالغة» في تحديد أعداد اللاجئين الفلسطينيين. وهي بذلك تتبنى، رسميًا، رواية رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، الذي يجادل دائمًا بأن: «استمرار حلم إعادة أحفاد اللاجئين إلى يافا هو ما يبقي هذا النزاع قائمًا. الأونروا جزء من المشكلة وليست جزءًا من الحل». يرى كوشنر وهيلي، ومسؤولون آخرون في إدارة ترامب، أن تعريف اللاجئ الفلسطيني يمثّل عقبة حقيقية أمام تحقيق سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وذلك على الرغم من أن الأمم المتحدة تُعَرِّفُ اللاجئين بأنهم كل من طردوا من ديارهم بسبب الحرب أو الاضطهاد أو العنف. ويتضمن ذلك أبناءهم وأحفادهم، ما دام التشريد لايزال مستمرًا. ويحتفظ جميع اللاجئين المسجلين في الأمم المتحدة بـ «حق العودة» المعترف به دوليًا لأراضيهم ومنازلهم. وبناء على ذلك، تعتبر الأونروا أن صفة اللاجئ، فلسطينيًا، تنسحب من الأصول إلى الفروع، وبالنتيجة، فإنها تشمل في عرف الوكالة، منذ تأسيسها عام 1949، الأبناء والأحفاد، حتى ولو كانوا يحملون جنسيات أخرى كما في حالة الأردن، أو لا يحملونها كما في سوريا ولبنان، وطبعًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، والبالغ عددهم أكثر من خمسة ملايين مسجل لديها. في حين تطالب إدارة ترامب الأونروا بحصر من يحمل صفة اللاجئ فلسطينيًا في مَن تبقى من الجيل الذي عايش نكبة عام 1948، وتحديد عددهم بنصف مليون شخص على الأكثر؛ أي عُشُر العدد المسجل لدى الأونروا. وتضغط إسرائيل، ومسؤولون في إدارة ترامب لنقل مسؤولية هؤلاء النصف مليون فقط من الأونروا إلى «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين»، كغيرهم من لاجئي العالم ونازحيه. ترى إدارة ترامب أن نموذج عمل الأونروا وممارساتها المالية «تعاني عطبًا لا يمكن إصلاحه»؛ ومن ثمّ فإن الإدارة «خلصت إلى أن الولايات المتحدة لن تقدم مساهمات إضافية للأونروا».
الأهداف
ترمي إدارة ترامب، في الإطار العام، من خلال الدفع في اتجاه إغلاق الأونروا، إلى تحييد ما تعتبره «عقبة» على طاولة المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، وذلك كما فعلت في «إزالة عقبة القدس» من قبل من طاولة المفاوضات. ووفق منطق ترامب في تفسيره مسألة اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، فإن ذلك «كان شيئًا جيدًا، ذلك أننا أزلنا هذه العقبة من طاولة المفاوضات. في كل مرة، كانت هناك محادثات سلام، فإنهم لم يتمكّنوا أبدًا من تجاوز أن تكون القدس هي العاصمة. ولذلك قلت فلنزحها عن الطاولة». وضمن المنطق نفسه، فإن مسألة «حق العودة» هي «عقبة» أخرى في طريق «السلام»، يجب إزالتها من طاولة المفاوضات. بمعنى إن مقاربة إدارة ترامب تقوم على إنهاء القضايا الجوهرية والمركزية التي تُعَرِّفُ الصراع، وتدخل ضمن ما يعرف بـ «قضايا الحل النهائي». وفي الحقيقة، فإن ما قام به هو إزاحة المفاوضات عن الطاولة.
وبتحييد ملف القدس، ومحاولة تحييد ملف اللاجئين، بالتوافق الكلي مع إسرائيل، فإن معالم خطة ترامب لتصفية قضية فلسطين، ضمن ما يعرف بـ «صفقة القرن» تصبح واضحة، خصوصًا إذا ما أضفنا إليها قيام إسرائيل بتكثيف بناء المستوطنات، داخل الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية وخارجها، وكذلك في منطقة القدس، بما في ذلك المنطقة (أ)، التي تربط القدس بمستوطنة معاليه أدوميم؛ وهو ما من شأنه أن ينهي أي تواصل جغرافي فلسطيني في الضفة الغربية. ولا شك في أن محاولات إسرائيل الحثيثة طرد سكان خان الأحمر، شرقيَّ مدينة القدس، تعزز هذا السيناريو. وبعكس السلوك التقليدي الأميركي، امتنعت إدارة ترامب عن انتقاد مساعي إسرائيل الرامية إلى تكثيف الاستيطان وابتلاع الأراضي الفلسطينية؛ وهو ما فهم على أنه مباركة أميركية لهذه الجهود الاستعمارية الإسرائيلية.
بناء على ما سبق، فإن ترامب يؤكد عمليًّا ما سبق أن أشار إليه من قبل، من أنه لا يلتزم صيغة حل الدولتين على أساس حدود عام 1967، وهو يختزل «صفقة القرن» في مفاوضات على حدود وهمية تقع ضمن الضفة الغربية ولا تحدّها، وعلى إدارة لشؤون سكانها، من دون سيادة. وواقع الأمر أن ترامب يسعى عمليًّا لمحاصرة الفلسطينيين عبر قطع شريان الحياة الذي تمثّله الأونروا لملايين اللاجئين الفلسطينيين؛ وذلك لإجبارهم على «قبول الصفقة الكبرى» التي يعتزم تقديمها لهم. كما يسعى للتخفيف مما يعتبره أعباء مالية تتحملها الولايات المتحدة، وإلقاء مسؤولية تمويل الأونروا على دول عربية خليجية ثرية بالنسبة إليه، وقد يكون يسعى أيضًا لممارسة ضغط على الفلسطينيين للعودة إلى طاولة المفاوضات، وفق الشروط الأميركية- الإسرائيلية، وهو ما لم تتردد هيلي بالتلميح إليه.
خاتمة
لقد عكست إدارة ترامب بقرارها وقف تمويل الأونروا بصفة نهائية سياسة أميركية مستمرة منذ سبعة عقود، التزمت خلالها الولايات المتحدة بتقديم نحو ثلث ميزانية الوكالة لمساعدة الشعب الفلسطيني الذي شرّدته إسرائيل من وطنه واستولت على أرضه. وكانت واشنطن قد أدّت دورًا مركزيًّا أيضًا في إنشاء هذه الوكالة؛ لتكون معنية حصرًا بتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، ريثما يتم التوصل إلى حل سلمي لقضيته. لقد قلب ترامب هذه السياسة وحوّلها إلى أداة ضغط للمساعدة في تصفية هذه القضية ضمن سياق مبرمج ومدروس. لكنّ حسابات الرئيس ترامب وبعض مساعديه هنا لا تقوم على استشراف حقيقي للتداعيات الخطيرة المحتملة لقرارتهم، بقدر ما تقوم على تماه كليٍّ مع حسابات الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل. من هنا جاء اعتراض المؤسسات الأمنية والعسكرية في الولايات المتحدة على هذه القرارات؛ من منطلق أن قطع المساعدات التعليمية والصحية والإغاثية التي تقدمها الأونروا لملايين الفلسطينيين سوف تؤدي إلى انفجار بينهم، وإطلاق جولة جديدة من العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلًا عن زعزعة استقرار الدول المضيفة للاجئين، والتي تتلقى مساعدات من الأونروا، وهي الأردن وسوريا ولبنان. وهذا الخوف تحديدًا هو ما دفع دولًا مثل ألمانيا واليابان إلى إعلان نيتهما زيادة مساعداتهما لـلأونروا، غير أنه من غير المرجح أن يتمكنا من تغطية العجز الذي خلفه الانسحاب الأميركي. وفي كل الأحوال، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل لن تنجحا في تحييد ملف اللجوء الفلسطيني، ولا في إجهاض تطلعات الفلسطينيين إلى حق العودة؛ فما دام هناك احتلال وتشريد، سيبقى هذا الحق قائمًا حتى يتحقق.
copy short url   نسخ
10/09/2018
3850