+ A
A -
الخرطوم- الوطن- محمد أمين يس
استمرار الأزمة في الخليج يعود إلى العسف الشديد الذي سبق تبريرات ثم مطالب دول الحصار بدءاً بقطع العلاقات الدبلوماسية والأخوية مع دولة قطر، وتبعته بفرض حصار شامل ساهم في تعقيد الأزمة والارتفاع بسقفها عالياً بحيث زاد الأزمة تعقيداً يصعب الوصول إلى حلول وفق المعطيات الراهنة. كانت البدايات اختراقاً ثم إفكاً، وكان واضحاً منذ البداية أن جملة الشروط والمطالب التي تبنتها دول الحصار ماهي إلا ذرائع ومسوغات واهية لتعميق الأزمة، ولكن سرعان ما تكشفت الحقائق والدوافع الخفية التي تسعى وراءها هذه الدول، وهي أسباب موغلة في التاريخ البعيد والقريب.. وأن الأهداف البعيدة والاستراتيجية ما هي إلا أطماع توسيعية لمحو قطر من خريطة المنطقة، وتحجيم دورها المتعاظم وتعطيل مسيرتها كدولة برزت بقوة في المنطقة وتتطلع لأن يكون لها شأن على المستويين الإقليمي والدولي، بما تملكه من إمكانيات ذاتية وعلاقات خارجية منفتحة على كل دول العالم وقدرات فذة في إدارة تلك العلاقات مستصحبة معها كل المتغيرات السياسية التي يشهدها العالم، ببساطة أرادت دول الحصار أن تقطع الطريق أمام قطر حتى لا تحجز لنفسها مكانة متقدمة في المنطقة.. ولكن هل نجحت في ذلك؟
إذا نظرنا بعمق إلى الشروط والمطالب التي ترى فيها دول الحصار أنها أسباب الخلاف مع قطر، وبقراءة لمضامينها الخفية وما تنطوي عليه من سوء الطوية، ما هي إلا محاولة لإدانة وتجريم قطر، وتأليب المجتمع الدولي ضدها وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بالعزف على وتر مخاوفها من الإرهاب.
ودول الحصار لم تستطع أن تثبت تلك المزاعم عملياً على الأرض ولم تقدم أي أدلة تذكر تستطيع أن تبني عليها اتهاماتها، وارتدت عليها التهم بمكيالين، وأصبحت تبحث عن مخرج من هذا الورطة التاريخية، وهي المعروفة تاريخياً لدى الغرب بأنها الحواضن التي فرخت الجماعات المتطرفة (الجهادية)، والتي نفذت ضربة 11 سبتمبر أشهر العمليات الإرهابية في العالم، وأعطت الغرب المسوغ والزريعة التي كان يبحث عنها للتدخل في المنطقة العربية بفرية مكافحة الإرهاب.
تلك المزاعم لم تنطل على كثير من الدول، التي أدركت أن الأزمة مفتعلة ولا أساس لها، والكل يعرف أن قطر جزء من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، وعززت ذلك بالاتفاق الذي وقعته مؤخراً مع الولايات المتحدة الأميركية بالدوحة، لذلك لم يكن غريبا أن تأتي مواقف الدول الكبرى متوازنة ومنصفة ترفض المسلك العدائي ضد قطر المتمثل في الحصار وتطالب برفعه، وتدعو في الوقت نفسه للتهدئة وعدم التصعيد بإظهار دعمها للوساطة الكويتية التي تبحث عن مخرج للأزمة عبر الحوار والتفاوض، فمصالحها تحتم عليها أن تتدخل بشكل إيجابي تجنباً لأي توتر يمكن أن يقود إلى مواجهة لا تحتاجها المنطقة العربية في هذا الوقت بالتحديد.
المسارات المتعددة التي سلكتها الدبلوماسية القطرية في مواجهة الأزمة أظهرت فهماً وإدراكاً كبيراً لأبعاد الخلاف المستتر منها والظاهر، دون اللجوء إلى المعاملة بالمثل، وكان تفنيد المزاعم بهدوء وحكمة وكشف خبايا الشروط والمطالب رداً كافياً على دول الحصار، التي تحولت من خانة الهجوم على قطر للدفاع عن نفسها، وكانت هذه هي الهزيمة الأولى والأخيرة لدبلوماسية دول تحالف الحصار مجتمعة، بينما تقف قطر على حجة قوية بدفاعها عن سيادتها الوطنية.
ولجأت دول الحصار لتعزيز موقفها ضد قطر إلى حشد الدول إلى صفها، واستخدمت في ذلك سلاح المصالح الاقتصادية المشتركة، ومارست ضغوطاً على كثير من دول بفقه «من ليس معنا فهو ضدنا»، ولكن الكثير من هذه الدول رفضت الاصطفاف بجانبها بهذا المعنى، واختارت ألا تكون جزءاً من الأزمة وأن تكون جزءاً من حل الأزمة، ولم تنشغل الدوحة كثيراً بمن هو معها أو ضدها، لان ذلك لن يغير شيئاً على أرض الواقع.
ولعل القراءة الأمينة تشير إلى أن أكثر المطالَب التي وضعت دول الحصار في مواجهة نيران كثيفة، هو مطالبتها بإغلاق قناة الجزيرة، حيث وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، وفتح عليها هجوماً مكثفاً من الانتقادات ليس من الدول فحسب وإنما من كل الإعلاميين ووسائل الإعلام الأجنبية والعربية وكذلك المنظمات التي تدافع عن حرية التعبير والصحافة في كل أنحاء العالم، في الوقت الذي أطلقت فيه لإعلامها العنان ليمارس التلفيق وتشويه الحقائق وتوزيع الاتهامات دون مراعاة لأخلاقيات المهنة.
ما لم تضعه السعودية والإمارات اللتان توليتا كبر (الأزمة) في الحسبان، أن طبيعة الأوضاع الإقليمية والدولية في تغير مستمر ولا تقف في حالة ثبات، وأن ميزان القوى يميل دائماً لصالح الدولة التي تسعى لأن توجد لنفسها مكانة بين الدول القوية، ولأن أحد أسباب الأزمة الحالية والتي لا تريد أن تفصح عنها دول الحصار علانية، بحسب تحليلات الخبراء هو أن حقيقة الخلاف بين دول الخليج هو صراع نفوذ بأبعاده السياسية والاقتصادية والجيواستراتجية، وأن السعودية والإمارات خططتا لإضعاف قطر سياسياً واقتصادياً حتى يتسنى لهما قيادة المنطقة منفردتين في المرحلة المقبلة، واستخدمتا سلاح الحصار لضرب وزعزعة اقتصادها المتنامي عالمياً، وإصابة الحياة في قطر بالشلل، ويذهب الخبراء إلى أن قطر فطنت مبكراً لطبيعة هذا الصراع وهو ما مكنها لاحقاً من مواجهة الأزمة برؤية واضحة ومتوازنة في كل أجهزة الدولة.
تلاقت مصالح دول الحصار في مواقفها ضد قطر، ولكن في الوقت نفسه لا يأمنان لجانبهما بعض لبعض، وقد كشفت التسريبات الخطيرة لسفير الإمارات (العتيبة) في واشنطن التي كال فيها السباب والشتائم للسعودية وقيادتها، الجانب الخفي في هشاشة دول تحالف الحصار وصراعها الشرس لقيادة الخليج. يكاد يتفق الجميع على أن تكيف قطر في تجاوز الأزمة بجوانبها المختلفة دون انعكاسات داخلية وخارجية، أنها لم تنشغل بالأعراض الجانبية، وعكفت على تدبير وتصريف أمور الدولة والمواطنين، واستطاعت التأقلم مع الأوضاع الجديدة، ساعدها في ذلك علاقاتها وتحالفاتها الدولية المتينة التي بنتها خلال العقود الماضية، ومدت جسور العلاقات مع دول لها وزن في الإقليم، لذلك وجدت مساندة ودعم وتعاون كثير من الدول في مواجهة الحصار وإضعافه.
ولعل من أخطر تداعيات الأزمة في الخليج، هو محاولة تجيير دور مجلس التعاون الخليجي في صف دول ضد أخرى، وقد كشفت هذه الأزمة عن مدى ضعف وهشاشة المجلس، مثله مثل الجامعة العربية وغيرها من المنظمات الأخرى التي وقفت عاجزة عن فعل شيء، والأسوأ من ذلك تلك التي اصطفت وراء معسكر السعودية والإمارات ضد قطر، وفي حقيقة الأمر يمكن القول إن المجلس رسب في اختبار المحافظة على وحدة دول الخليج، مع الاحتفاظ بمواقف بعض الدول التي رفضت الانسياق وراء دول الحصار، ولكنها لم تمنع تسخيره لخدمة أجندات وأغراض ليست من مصلحة كل دول الخليج. لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من الوساطة الكويتية في عدم إحرازها تقدم يذكر في حل الأزمة، وهي المبادرة الوحيدة الموجودة في الأزمة، ولكن استباق دول الحصار تحركات الوساطة الأولية ودفعها بشروطها ومطالبها، صعب من مهمة الوساطة إن لم يكن جعلها مستحيلة، ورغم ذلك مازالت الوساطة تسعى لحمل أطراف الأزمة إلى طاولة الحوار والتفاوض، ودخول الأزمة مرحلة التجميد ووقف التصعيد ربما يكون ضوءاً أخضر يساعد الوساطة في تحركاتها التي ابتدرتها مؤخراً في نزع فتيل الأزمة، وستشكل المواقف الدولية الساعية إلى الحل دفعة قوية للوساطة في مهمتها.
لو انتهت الأزمة في الخليج اليوم أو غداً أو حتى بعد عام، هذا لن يغير في الواقع الذي خلقته شيئاً، والراجح أن تشهد المنطقة تغييراً راديكالياً، ربما يقود إلى إنهاء التحالفات القديمة إلى غير رجعة على الأقل في السنوات المقبلة، قبل أن تستقر على حال، وستتغير خريطة العلاقات بين دول الخليج ربما تمهد لتحالفات جديدة متشابكة تتجاوز المنطقة.
copy short url   نسخ
13/06/2018
1157