+ A
A -
- بقلم : د. عادل بدر
الإيقاع أوسع من العروض ومشتمل عليه، وخطأ العروضيين التقليديين من عرب وغيرهم هو عدم إدراكهم لاتساع الإيقاع وخصيصته في آن؛ فللشاعر الحرية في إيجاد إيقاعه الخاص، وهذا ما يميز المفهوم الحديث في الشعر عن المفهوم القديم الذي كان يصر على نوع معين من قواعد الوزن، فهو يميز المفهوم القديم والحديث للشاعر.
ونشير إلى أننا حاولنا أن نميز في السطور السابقة بين الإيقاع والمصطلحات القريبة منه، لكن ما يهمنا هو البحث عن جذور هذا المصطلح ومدلولاته «فتشتق كلمة الإيقاع RHYTHM في اللغات الأوروبية من لفظ RHUTHMOS اليوناني، وهو بدوره مشتق من الفعل RHIN بمعنى ينساب أو يتدفق، وفي اللغة العربية يرجح أن لفظ الإيقاع مشتق من التوقيع، وهو نوع من المشية السريعة، إذ يقال «وقع الرجل»، أي مشي مسرعاً مع رفع يديه.. ومن المعروف أن مشية الإنسان من أهم الأصول الحيوية التي يرجع إليهما الإيقاع».
والحق أن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التي يصعب تعريفها لا لشيء إلا لكونها مألوفة، ولأن تأثيرها فينا ملموس بلا انقطاع.
ويستخدم الإيقاع أساساً في الموسيقى، باعتباره تنظيماً للشق الزمني منها، فقيل إن الإيقاع مجموع اللحظات الزمنية الموزعة وفقاً لترتيب معين، وإن الإيقاع هو النظام في توزيع مدد الزمان، والزمان هو لب الإيقاع الموسيقي، بل إن الإيقاع الموسيقي ربما كان أقوى عناصر الفنون كلها تعبيراً عن الزمان، غير أن الإيقاع في الشعر لا يقف عند حدود هذا المعنى العام، وإنما يحقق علاقة قوية مع الإيقاع الموسيقي، وبهذا المعنى يصبح الإيقاع خاصية جوهرية مميزة للشعر، وليس خارجاً أو مفروضاً عليه «وهذه الخاصية ناتجة في الحقيقة عن طبيعة التجربة الشعرية ذاتها، تلك التجربة الرمزية التي تحتاج إلى وسائل حسية لتجسيدها وتوصيلها، ومن هذه الوسائل الإيقاع.
ويرتبط الإيقاع بالمعنى ارتباطاً حيوياً؛ لأن الكلمات التي يبتدعها المعنى لا تنفصل عن أصولها الصوتية، ولهذه قال بوب: «إن الجرس يجب أن يكون صدى للمعنى».
إن لغة الشعر تنظيم اللغة العادية على المستوى الصوتي للغة والصرفي والنحوي والدلالي.. ولقد ربط سيد البحراوي بين مفهوم «إعادة التنظيم» وبين «الإيقاع» على أساس أن إعادة تنظيم العناصر الصوتية في القصيدة يخلق تكراراً منتظماً لها في الزمن؛ أي أنه يخلق نظاماً صوتياً (الإيقاع)، فهو مكون من العناصر الثلاثة (الصوتي والصرفي والنحوي) والتي لا تستحق أن تعتبر عناصر إيقاعية إلا إذا توفرت فيها «النظامية»، ومن ثم يمكن اعتبارها أنظمة فرعية للنظام الأكبر: الإيقاع. ولما كان الإيقاع الشعري واحداً من مكونات النص الدلالية، فقد اتسم هو أيضاً بالسمة التي أفردت شعر الحداثة، مما سواه من شعر، فصار إيقاعاً غامضاً لا يتميز بذاته، وإنما يندمج بنائياً في البنية النصية الكبرى، حاملاً نصيبه من دلالتها.. ومن ثم أصبحت «القصيدة قانون نفسها، ولذلك فهي تخلق قانونها الموسيقي الخاص والنابع من حركتها الداخلية وضراوتها البنائية وعليه صار الإيقاع، إشكاليـاً إلى حد بعيد مع شعر الحداثة، نظراً للتداخل بين الأجناس ولانهيار الحدود بين الأجناس الأدبية وإغراق ذلك الشعر في الاستفادة من هذا التداخل، إنه إيقاع يتولد عن أرضية ومناخ جديدين، لم يعد فيهما الوزن وحده محكاً لشعرية القصيدة، بل هناك محك خلّاق ومبدع.
فالعلاقات فيه عقلية حسية، ولا تكفي الحواس لإدراكها، بل تحتاج كذلك إلى الفكر، فالكلمات «نفسها مبنية بناء مزدوج، إنها أصوات تعتبر رموزاً للمعاني، وهي أيضاً تعتبر أصواتاً»، وتنظيم هذه الأصوات بمعانيها بطريقة غير عادية هو ما يقدم لنا الشعر، وفي داخل النظام (الإيقاع) ليس هناك اتجاه ثابت، بل أكثر من اتجاه، اتجاه يرسي أسس النظام ويدعمه، واتجاه ينتهك هذا التدعيم، ويسعى فك آليته وتحطيمه.
فجوهر النظام الشعري هو الصراع بين عناصر الثبات والتغير، فهناك تأسيس لنمط ثم ثورة وانتهاك لهذا النمط.
فإيقاعية الشعر قد تعني التكرار الدوري لعناصر مختلفة في ذاتها متشابهة في مواقعها ومواضعها من العمل بغية التسوية بين ما ليس متساوياً، أو بهدف الكشف عن الوحدة من خلال التنوع، وقد تعني تكرار المتشابه بغية الكشف عن الحد الأدنى لهذا التشابه، أو حتى إبراز التنوع من خلال الوحدة.
والإيقاع في القصيدة هو العنصر الذي يميز الشعر عما سواه، فضلاً عن أنه يتخلل البنية الإيقاعية للعمل، فإن العناصر اللغوية التي يتشكل منها ذلك العمل تحظى من تلك الطبيعة المميزة بما لا تحظى به في الاستخدام العادي، وثمة أمر هام آخر وهو «أن البنية الشعرية لا تبدي في بساطة تلك الظلال الجديدة لدلالات الألفاظ، بل إنها تكشف الطبيعة الجدلية لهذه الدلالات، وتجلو خاصية التناقض الداخلي في ظواهر الحياة واللغة الأمر الذي تعجز وسائل اللغة العادية عن التعبير عنه».
copy short url   نسخ
26/02/2018
21235