+ A
A -
نور الدين العلوي

كتبت عن قصور الخيال التونسي بعد الثورة، وأوسع القول في مسألة تبدو لي أقدم من الثورة وأعمق غورًا من خيال النخب السياسية التونسية المفكرة والعاملة بالفكر، إنها مسألة التحقير الذي يسلّط على عمل الأرض وامتهان العاملين فيها أي الفلاحين.
النخب التونسية (وأجزم أن الأمر قابل للتوسيع على النخب العربية، فالمشتركات الثقافية كثيرة بين هذه النخب على اختلاف منشأها الجغرافي) الحاليّة لم تزد أن كرّست التحقير التاريخي الذي يسلّط على عمال الأرض وامتهان جهدهم وبالتالي إقصاؤهم من الفعل السياسي والتنموي.
والأمر لا يتعلق فقط بتدني التأجير في العمل الفلاحي أو ترديد مشاهد السخرية من الفلاح الوسخ عقلاً ومظهرًا، إنها إيديولوجيا مبنية لتبرير توزيع المنفعة من الوجود الاجتماعي ضمن دولة، إنه إقصاء ممنهج وله حججه الزائفة ككل بناء أيديولوجي يقضي لينتفع، لنبحث في الأسباب لعلنا نهتدي إلى تفسير أبعد من رد الفعل العاطفي الشفوق على الفلاح.
ورثت الدولة التونسية تمييزًا في الأجر بين الأجر الصناعي الأدنى والأجر الفلاحي الأدنى، ولم تعمل على تسوية الأجرين رغم أن الفلاح يعمل أكثر وساعة العمل الفلاحي أشقى وأمر، انجر عن ذلك فارق مادي ظل يتوسع باطراد بين فئتي العمل الفلاحي والعمل الصناعي والإداري، بصيغة أخرى من خلال قواعد التأجير المقننة عملت الدولة على خلق تفاوت اجتماعي انعكس على موقع الفلاح في المجتمع ثم على الثقافة العامة المحيطة بالعمل الفلاحي المؤجر والعمل في الفلاحة بصفة عامة.
لذلك صار الهروب من العمل الفلاحي إلى الصناعي وإلى الإدارة سلوكًا غالبًا حكم بتفقير الريف عامة من البشر وحطم قيمة الأرض العقارية (المالية).
ربطت الدولة نظام التبادل بالمدينة، فهي الموئل النهائي للاستهلاك، لذلك على الفلاح أن يموّلها فينتج ويحمل منتجه إلى المدينة التي تحكم عليه عبر أسواق الجملة التي يديرها تجار محترفون يعرفون كيف يحطّون من قيمة المنتج ليسهل تسويقه للمستهلك الحضري، فصار الفلاح رهينة لدى نظام التوزيع الموجه لمصلحة سكان المدن.
إنه نظام من الإقصاء المقنن بقوة الدولة.
copy short url   نسخ
24/01/2018
1242