+ A
A -

لعلك تذكر يا قارئي المحترم تلك العبارة القصيرة التي اشتهر بها الفيلسوف اليوناني سقراط، ألا وهي «تَكَلَّم لِأراكَ»، والقصد أنك لا تحتاج إلى أن تنظر قبالتك لترى هذا الذي يقف وقد سبقته إليك رائحة عطره الزكية ولمسات هندامه المرتب وتسريحة شعره الجذابة، وإنما كل ما تحتاجه ليس أكثر من أن تحسن الإنصات إليه وهو يتكلم لتعرف ما إذا كان يستحق أن تَسْمَعَهُ وتُسْمِعَه.

قصة سقراط هذا لا تتوقف هنا، إذ إن أكثر شيء يَستميلك في سيرته ليس قولته الشهيرة تلك فحسب، وإنما هو الامتعاض الذي كان يجده في زوجته التي لا تتوقف عن الكلام، إذ من سيئات زمن سقراط أنه ابتلِيَ بزوجة سليطة اللسان، زوجة هي كانت لا تكف عن التذمر، فإذا بها لا تخرج عن قلم أحمر، وأنت الأدرى بأن القلم الأحمر ما كان إلا ليصحح ويسجل الملاحظة تلو الأخرى.

عندما يكون لسان الزوجة منشارا، فترقب أن أول ما يقطعه هو حبل المودة. غير أن سقراط الحكيم ما كان ليرحل بعيدا عن زوجته ذات اللسان الذي لا يكف عن إحداث ثقوب مسمارية تجتاح روحه الشفافة، ولا كان المسكين ليقفز إلى غيرها من نافذة البحث عن الصمت، لذلك ظل سقراط يدين لزوجته تلك مهما حاول الهروب منها ولو عبر النوم وإخلاء البيت بالساعات الطوال بين تلاميذه وكتبه وسرب أفكاره التي ظل يطاردها وتطارده.

لو لم تكن زوجة سقراط لما عرف سقراط حكمة الصمت، ولا سمعنا شيئا عن أحواله ولا تلذذ هو بفلسفة الإنصات، بل قل إن الرجل تعلم الهدوء من لسانها اللاذع الذي جعل العاصفة تسبق الهدوء وليس العكس كما يقال.

لنكن في مستوى حكمة سقراط وتبصره ويقظته وهو يُصَيِّرُ التراب ذهبا ويأذن للشوك بأن يَعِد بالورد. وعوض أن يشكو الرجل ويتذمر من الكلمات الأشبه باللكمات التي قد ترشقه بها زوجته لأسباب قد تعلمها وقد لا تعلمها، فتفسد رغبته في البقاء إلى جانبها، لِمَ لا يُجَرِّب أن يتخذ من هزال مواقف زوجته مصدر إلهام له يضيء طريق حياته التي لا تسمح بطوب آخر يتعثر فيه، ولِمَ لا يحاول أن يصنع من محنة الوقت العابس منحة تشجعه على أن يفهم المرأة والحكمة من وجودها معه تحت سقف واحد حتى وإن كان لسانها يتمدد ليبقيه تحت رحمة تمردها أوعنادها الذي يريد أن يقول بالحرف: «دعني أتكلم لتراني أراك».

صَدِّقْ يا قارئي الوفي أن المرأة مدرسة، مدرسة هي ستتعلم منها الشيء الكثير حتى في أحلك فترات العطاء تلك التي لا يميز فيها غير الحكيم بين ريح تُزَمْجِر هاربةً بك مِن وطر، وبين غيمةٍ تُرعد لتَلِدَ بناتِ المطر.

copy short url   نسخ
09/12/2023
120