+ A
A -
سمعت جدَّتي تقول بأنَّها أصبحتْ بعدَ مرَضِ الشيخوخةِ شقيقةً لأُمِّي، وأنّ حفيدتَها الكبري هي ابنتُها، وأنّها لن ترحلَ عن الدّنيا ولن تستسلِمَ للذِّئابِ التي تحومُ حولَها منذُ أشهُرٍ قبْلَ أن تطمئن على أحوالِ ابنتِها التي هي في الحقيقةِ حفيدتهَا، رغمَ أنَّها تُدْرِكُ أنّ الحفيدةَ تعيشُ في بلادٍ بعيدَةٍ يفصلُها عن الجدّةِ بحرٌ وصحراءُ وغاباتٌ وبلادٌ يقتَتلُ قاطنوها على لقمَةِ الخبزِ وكراسي العرشِ مع ذئابٍ كبيرةٍ قطعتْ تخومًا ومحيطاتٍ وجبالا ووديان لتَقْتَسمَ مَعَهُم الملح والخبز.
لم تغادرْ جدّتِي بيتَها ومدينتَها منذُ التهمتْ ذِئابُ الغربةِ اثنين من أبنائها، كلاهما ماتَ وحيدًا وبعيداً عن أحضانِها، أمّا هيَ فقدْ ظلَّتْ تبكيهم وتَصَلِي، كانتْ تصحُو كلَّ فجرٍ لتصليَ، ثمَّ تجلسَ على كرسي القشِّ ومن خلالِ زُجاجِ الشرفَةِ كانتْ تنْظُرُ للأفق، وترنو بنظرِهَا الخفيفِ إلى بوابةِ المدينةِ التِي تركَها الرومانُ علامةً علَى أنهم مروا من هناك وبنَوا في تلك المدينةِ الصغيرةِ إمبراطوريتهم، المدينةُ التي لا يلتفتُ إليها الآنَ أحدٌ ولا يزورُها إلا إذا شهدتْ مهرجانا ثقافيّا أو عروضًا فنية وراقصةً.
كان مطبخُ جدَّتي دافئا ومريحا، وعلى الرّغْمِ منْ دخولِ التكنولوجيا إليه، إلا أنَّه احتفظ بشكلِه التقليدي، فالهاون النحاسيُّ وصواني القشِّ يتصدران الأرففَ الخشبيةَ المضمّخةَ برائحةِ المرمريةِ والنعناعِ المجفَّفِ، المعالق الخشبية معلقة عَلَى الجدارِ، يبدو أنْ جدَّتي لا تعترفُ أبدًا بالأدراجِ والخزائنِ الخشبيةِ، لهذا لمطبخها طابع مميز، يحملُ ذوقَها الخاصَّ، إذ تستخدمُ القماشَ المبكِّرَ باللونين الأبيض والأحمرِ لصُنْعِ الستائر وغطَاء الطَّاولةِ وجرَّة الغَاز أمَّا مسّاكاتِ الأوانِي فإنِّها تعلِّقُها علَى الحائطِ القريبِ من الفرنِ لتكونَ بمتناول يدِهَا وَهِي تطهُو الطعامَ.
الخزائنُ السفليُّة كانت دائماً عامرةٌ بالمونةِ المنزليَّة المعبّئةِ في أوانٍ خاصةٍ للحفظ، فالزيتُ مثَلا تخزِّنُه على قطعةٍ خشبيَّةٍ أعْلى من مستوى الأرضِ حتّى لا تفسدُه الرطوبةُ، تَضَعُ الزيتونَ بجانبه، ثمّ المكدوس (الباذنجان المحشو بالجوز والفلفل والثوم) المغمورِ بالزَّيتِ، أمَّا الخزانةُ العلويّةُ كانت مخصصةٌ لحفظِ الجبنة البيضاء، وكرات اللبنةِ بالزيتِ، والزعترِ بالسمسمِ، وأنواعِ المربّى التي تعدُّها من فواكه الموسم كالتين والمشمشِ والتوتِ والعليق.
جدّتي كانت تُشْبهُ مدينتَها، صامدةٌ مثلُها، ومنسيَّةٌ، جميلةٌ وهادئةٌ، لم تبتسمْ يومًا للغرباءِ، حنانُها يتدفَّقُ كما يتدفَّقُ نبعُ الماءِ الصافِي في منطقةِ سيلِ جرش الذي يحيطُه حزامٌ أخضرُ موشى بشقائقِ النعمان والأقحوان والورودِ الملونةِ، كانت جدتي تزرع نباتاتِ الزينةِ في محيط بيتها وتوزِّعُ الأصصَ الفخاريّةَ في كلِّ الزّوايا، وتسمِّيها بأسماءِ أحفادِها المغتربين في جِهاتٍ بعيدةٍ، وكلَّما تفتحتْ زهرةٌ جديدةٌ في بستانِها المنزلي تدُلُّها أمومتُها الفطريةُ بأن حفيدًا لها قد رزقَ بمولودٍ جديدٍ، تغمرُها الفرحةُ وهي تخيطُ له بعضَ الأثوابِ التقليديةِ الزرقاءِ إنْ تأكدَ لَهَا أنَّه صَبِي، أو الورديَّة إن كان المولودُ بنتا، وفيما ندرَ تخيطُ ثيابا صفراءَ إذا اختلطَ الأمرُ عليها ولم تسعفْها ذاكرتُها بتذكّرِ نوع المولود.
رحم الله جدتي، بوفاتها جف نبع الحنان والدفء الذي ترعرعنا حوله وانطفأت قناديل المدينة التي كانت تضيء الطريق إلى أحضانها.
copy short url   نسخ
13/09/2017
1910